أخطاء الماضى.. آلام الحاضر
لا يمكن الحديث عن أزمة الاقتصاد المصرى دون تأريخ نقدى للمراحل المختلفة التى مر بها، وانعكاسات السياسة عليه، ورصد للأخطاء التى وقعنا فيها عبر عقود؛ حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.. ومن وجهة نظرى الخاصة، فقد وقع المصريون جميعًا فى أخطاء قاتلة خلال الخمسة وسبعين عامًا الأخيرة قادت الوضع الاقتصادى المصرى لوضع ليس هو الأفضل، ولعل أول هذه الأخطاء كان فى ٢٦ يناير ١٩٥٢ حين قاد صعود الأفكار الدينية والمعادية للاستعمار لحريق مئات من المؤسسات الاقتصادية الأجنبية، التى كان مركزها منطقة وسط البلد فى مدينة القاهرة، والتى كانت تشكل مركزًا استثماريًا عالميًا غير مسبوق فى الشرق الأوسط، وكان حريق القاهرة هو أولى جرائم السياسة والثقافة الشعبية فى حق الاقتصاد، وكان ثانى القرارات الخاطئة من وجهة نظرى هو قرارات التأميم الاشتراكية فى عام ١٩٦١، وكان الخطأ فى التنفيذ وليس فى التوجه نفسه، حيث تم فهم عبارة «حقوق العمال» ليس على أنها رفع الاستغلال عنهم، ولكن على أنها تمليكهم الشركات المؤممة، ومنحهم حق تعيين أبنائهم وأقاربهم، ومنحهم «الأرباح» حتى لو خسرت الشركات التى يعملون بها، وقد ظلت الشركات المؤممة صامدة حتى ما بعد حرب العبور المجيدة، وحملت اقتصاد مصر على أكتافها خلال الحرب، لكن التمادى فى سوء الإدارة، وعدم تجديد معدات الإنتاج قاد القطاع العام لأن يصبح عبئًا على موازنة الدولة، وكان الأولى أن تدخل الدولة فى شراكات مالية مع أصحاب الشركات المؤممة وتترك لهم حق إدارة شركاتهم، لكن النتيجة النهائية أن قرارات التأميم أضرت ولم تفد رغم حسن النوايا وصدقها، أما ثالث الخطايا الاقتصادية فقد كان قرارات الانفتاح الاقتصادى عام ١٩٧٤ التى اتخذت عقب نصر أكتوبر بشهور، وشابها الاستعجال، وكان يجب تأجيلها لحين إعداد قاعدة صناعية قوية تستفيد من قرارات الانفتاح.. لكننا تعجلنا فى القرارات، فتحول الانفتاح من انفتاح إنتاجى لانفتاح استهلاكى، وبدلًا من أن تتحول المنطقة الحرة فى بورسعيد إلى منطقة صناعية استثمارية سبق ظهورها مدينة جبل على فى الإمارات بعشرات السنوات، تحولت إلى المدينة التى يذهب لها الناس ليشتروا المياه الغازية والحلوى المستوردة.. وقد قاد إخفاق الانفتاح إلى أزمة اقتصادية ثم سياسية أدت لنهاية المرحلة واغتيال الإرهاب للرئيس السادات وتولى نائبه الرئيس مبارك، رحمه الله، الذى يمكن القول إن أكبر أخطائه أنه لم يفعل شيئًا! وبدلًا من أن يصلح أخطاء الانفتاح ويدفع به فى اتجاه الإنتاج قاد سياسة انكماشية أول عشر سنوات من حكمه التزم فيها الحذر تجاه القطاعين الخاص والعام معًا! وأدى ذلك لأزمة كبيرة فى العملة الصعبة وفى سداد أقساط الديون، وجاء الحل فى حرب تحرير الكويت التى تم فى أعقابها إلغاء ديون مصر أو معظمها، وكانت هذه فرصة للانطلاق تمت إضاعتها مثل سوابقها، فلم تأت استثمارات أجنبية إلى مصر بحجم المساعدة التى قدمتها فى حرب تحرير الكويت، ولم توجه فوائض خدمة الدين لدعم القطاع العام وتعويمه مثلًا، ولا لدعم التعليم والصحة، وشهدت البلاد دفن عشرات المليارات من الدولارات فى رمال العين السخنة والساحل الشمالى بدلًا من توجيهها للصناعة والاستثمار، حيث تراكمت تحويلات المصريين فى الخارج خلال ثلاثين عامًا كانت هى المصدر الرئيسى للدخل القومى بمتوسط ثلاثين مليار دولار فى العام.. وبمجموع تسعمائة مليار دولار.. فى ثلاثين عامًا.. لو تم توجيهها للاستثمار فى الصناعة والزراعة لنافسنا كوريا الجنوبية وسنغافورة.. لكنها دفنت فى حوائط الأسمنت فى الدلتا والصعيد والساحل الشمالى وكان المصريون يشترون البدلة الفاخرة قبل أن يكون معهم تكلفة الفرح، ولو وجهنا مدخراتنا للاستثمار أولًا لصار بمقدور المصرى أن يقضى إجازته فى أى شاطئ يريده فى العالم.. بدلًا من امتلاك البعض شاليهات وشكواهم مر الشكوى من ضيق المعيشة، وقد مر الاقتصاد فى الثمانينيات بمرحلة أكثر عبثية ضاعت فيها مدخرات الطبقة الوسطى لدى نصابى شركات توظيف الأموال بدعم ومباركة الدولة ومسئوليها، حيث تم تبديد مليارات كان يمكن أن تنقل الاقتصاد نقلة أخرى لو أحسن توظيفها فى بناء قاعدة صناعية، وتبقى تجربة الست سنوات الأخيرة قبل يناير ٢٠١١ وهى تجربة ناجحة بمعايير المعدلات الرقمية لكنها افتقرت للشرعية الأخلاقية والسياسية، واتسم القائمون عليها بالتعالى على الناس، واكتسبوا أكبر قدر من الرفض الشعبى، ولم يستطيعوا شرح تجربتهم للناس، فضلًا عن أن عوائد النمو لم تصل للطبقات الأقل مع انتشار العشوائيات والبطالة وتراجع التعليم والصحة والمرافق العامة، ما أدى لاعتقاد الناس بأن المستقبل سيكون أسوأ، وبالتالى خروجهم لهدم ما هو قائم أملًا فيما هو أفضل.. وقد كانت هذه مرحلة أخرى لها أخطاؤها، وسنتحدث عنها غدًا بالتفصيل بإذن الله.