عن الصحافة المصرية
تابعت باهتمام حلقة أمس الأول من البرنامج الناجح «مع قصواء»، الذى تقدمه الزميلة اللامعة قصواء الخلالى.. ناقش البرنامج قضية غاية فى الأهمية، وهى «واقع الصحافة الورقية» فى مصر والأسباب التى أدت لتراجعها خلال العشر سنوات الأخيرة.. استضاف البرنامج نخبة من الصحفيين المصريين من مختلف الأجيال، وعبّر كل منهم عن تحليله سبب تراجع الصحافة الورقية، وبقدر ما كانت المناقشات ثرية والآراء مفيدة بدا لى أن ثمة وجهة نظر غائبة، وهى تلك التى تربط حال الصحافة بحال المجتمع المصرى وبعض الأمراض التى انتابته فى السنوات الأخيرة وانعكست على حال الصحافة ضمن ما انعكست عليه، وبشكل عام فقد تبنى فريق يعتد به وجهة النظر التى تقول إن غياب الحرية بشكل عام عن الصحف هو سبب رئيسى من أسباب تدهورها.. ورغم إيمانى بحرية الرأى والاجتهاد بشكل عام ومطلق إلا أن شهادتى من واقع الخبرة تقول إن تدهور الصحافة المصرية بدأ عقب يناير ٢٠١١ بشكل ليس له مثيل، رغم أن حرية الكتابة كادت تكون مطلقة فى تلك الفترة، وكان أحد أبرز عوامل التدهور هو خلط السياسة بالصحافة وتحول عدد كبير ممن أطلق عليهم لقب نشطاء إلى صحفيين عاملين وكتّاب رأى بين ليلة وضحاها دون سابق خبرة أو إعداد أو علاقة ما بمهنة الصحافة، التى تشبه المدرسة؛ لا يحصل التلميذ فيها على الشهادة الكبيرة إلا بعد أن يجتاز امتحانات النقل بسنواتها المختلفة وينجح فيها.. لكن بعض النشطاء لدينا تحولوا إلى صحفيين ورؤساء أقسام ومديرى تحرير وكتّاب رأى بين ليلة وضحاها.. وساهم فى ذلك سياسة الرشوة الفئوية التى اتبعتها حكومات ما بعد يناير مباشرة.. حيث تواجد عدد كبير من الشباب فى صالات تحرير الصحف الكبرى والقومية وادعوا أنهم محررون تعرضوا للظلم فى عهود ما قبل الثورة، وقاموا بالتظاهر بشكل يومى حتى ينالوا حقهم فى التعيين رغم أن معظمهم لم تكن له علاقة بهذه الصحف حتى شهور مضت، واستغل كثير منهم حالة «الثورة» و«الفراغ» فى انتحال صفة صحفى. وفى حدود شهادتى الشخصية فقد اتصل رئيس وزراء تولى المسئولية فى تلك الفترة بمسئولى الصحف طالبًا تعيين كل من يتظاهر لديهم طلبًا للتعيين حتى لو لم يكن صحفيًا من الأساس! وقد تم ذلك بالفعل، والحقيقة أن كل من حصل على حق التعيين بسيف التظاهر والابتزاز كان سببًا فى تراجع الأحوال فى مؤسسته لعدة أسباب.. أولها أنه ليس صحفيًا من الأساس وليس لديه ما يقدمه، وثانيها أنه يؤمن من داخله بأن التظاهر وابتزاز المسئولين هو طريقه للترقى وليس العمل الجاد لذلك لا يعمل فى مؤسسته ويكتفى بالحصول على راتبه، وبالتالى فإن كثيرًا من الصحف المصرية لم تحقق طفرات توزيعية فى فترة السيولة السياسية من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٤، بل تراجعت أوضاعها التحريرية والمهنية بشدة، وإذا عدنا إلى ما قبل يناير ٢٠١١ بخمس سنوات سنجد أن التراجع بدأ مع إنهاء خدمة رؤساء التحرير التاريخيين للصحف الكبرى والذين استمروا فى السلطة لربع قرن كامل، ركزوا خلاله كل مفاتيح المؤسسات فى أيديهم وقضوا على خمسة أجيال كاملة من الصحفيين المصريين، ولم يهتموا عامدين بإيجاد أجيال تستطيع القيادة فى المستقبل، وعندما تمت تنحيتهم فى ٢٠٠٥ صعدت قيادات معظمها غير مؤهل وبدا أن المناصب كبيرة عليهم وقادت ممارسات بعضهم الناس إلى كراهية الصحف التى يرأسونها، وقيل إن كتابات بعضهم كانت من أسباب سقوط النظام فى ٢٠١١ لما كانت تسببه من استفزاز للناس، أما السبب الأكبر لأزمة الصحافة من وجهة نظرى المتواضعة فهو يعود إلى شيوع مجموعة من الأمراض فى المجتمع بشكل عام وفى الصحافة أيضًا، ومن بينها تراجع قيمة الأستاذية، وعدم إقدام من يملك الخبرة على نقلها للأجيال الأحدث خوفًا من منافستهم له فى المستقبل، وهو مرض قابله على الجانب الآخر غرور الأجيال الأصغر وإحساسها بعدم الحاجة للتعلم واعتبار أن الوجود على وسائل التواصل هو قمة النجاح المهنى دون حاجة إلى تعلم أصول المهنة التى تعلمها أساتذة الصحافة المصرية ونقلوها لبعضهم البعض جيلًا بعد جيل، وإلى جانب غياب تقليد التعليم والتعلم الذى لا تزدهر مهنة إلا به، شاعت ممارسات مشابهة مثل «قتل الأجنة الموهوبة» واضطهاد الشبان الذين يفكرون بشكل مختلف وتصعيد من ينتمون لـ«الشلة» التى يديرها هذا المدير وذلك المسئول، حيث باتت «الشلة» من أهم التنظيمات الاجتماعية فى مصر، وباتت تتفوق فى أهميتها على التنظيمات التقليدية مثل الأسرة أو القبيلة. ويمكن القول إجمالًا إن مشكلة الصحافة المصرية هى غياب الصحفى «الصنايعى» و«الموهوب» الذى يتعلم أصول الصنعة فى بدايته من أساتذته ويتدرج فى مواقع المسئولية المختلفة حتى يصبح رئيسًا للتحرير.. حيث أدت التغيرات السياسية الحادة أحيانًا إلى نوع من حرق المراحل والتمكين السريع مما أدى إلى عدم نضج الطبخة الصحفية كما ينبغى فى بعض الأحيان.. فضلًا عن أن تكاثر كليات ومعاهد الإعلام ربما يدفع إلى الشك فيما إذا كان الطلاب يحصلون على التعليم والتدريب الكافى قبل الدفع بهم إلى سوق العمل فى المواقع الإلكترونية وبرامج التليفزيون حيث يختفى حرص الكثيرين منهم على التميز أو الانفراد بـ«خبطة» صحفية تقوده إلى الشهرة ويكتفى الكثيرون منهم بالحصول على راتب من عمل صباحى وآخر مسائى لتتحول الصحافة إلى مجرد وظيفة ثابتة لا تتطلب الكثير من المهارات ولا تقدم الكثير من المميزات!.. تحية للإعلامية اللامعة قصواء الخلالى على طرح هذا الموضوع المهم، والذى يمنحنا الأمل فى مزيد من الاهتمام بالصحافة التى هى أصل من أصول القوة الناعمة وسلاح لمصر على المستوى العربى والإقليمى والدولى أيضًا إذا أحسنا استخدامه ووفرنا له سبل النجاح بعيدًا عن صعوبات الواقع والأمراض التى ضربت المجتمع.. والله من وراء القصد هو نعم المولى ونعم النصير.