بيرم التونسي يطالب بإعلان الحرب على الأغنية المائعة.. ما القصة؟
بيرم التونسي بالإضافة إلى كونه واحدا من أبرز شعراء العامية المصرية المؤسسين، كان له نظرة نقدية ــ كمثقف عضوي ــ في قضايا عصره ومنها الغناء وشجونه، عبر عنها في العديد من المقالات الصحفية.
ومن مقالات بيرم التونسي التي تطرق فيها بالنقد إلى الظواهر الغنائية والشعرية في عصره، تلك التي حملها العدد 420 من مجلة الكواكب الفنية والمنشور بتاريخ 18 أغسطس من العام 1959. وفيه يستهل حديثه راصدا لبعض الظواهر الغنائية.
بيرم التونسي يطالب بإعلان الحرب على الأغنية المائعة
يقول بيرم التونسي: “يخطئ من يقول إن الأغنية ارتقت عن أيام زمان، فأنها في الوقت الحاضر تدور في فلك محدود من حب وهجران وغرام وصدود ودموع وبكاء ولا أمل. وإذا كنت تعجب برقة أغنية تلمس قلبك أو تثير ذكري من ذكرياتك فلا تنس أن شعراء الربع الأول من هذا القرن ــ العشرين ــ سبقوا إلى كل المعاني المتداولة وصاغوها شعرا وأزجالا رائعة”.
وكان نظم الأغنية أو بتعبير آخر كان الشعر الغنائي هواية العظماء أيضا، فقد كان إسماعيل صبري باشا وزير الحقانية من أرق شعراء الغناء والشيخ على الليثي والشيخ عاشور كانا كذلك رغم أنهما أزهريان.
ويوضح بيرم التونسي: "وإذا سلمنا جدلا أن الأغنية العاطفية لا بأس بها من حيث أنها أغنية عاطفية فإن نقدا يمكن أن يوجه إليها من ناحية أنها لا تواجه كل حياتنا، ليست صورة لنا، السينما مثلا صورة حياتنا، الصحافة أيضا، الإذاعة ثالثا، الفن من رسوم ونحت، ملها تنبثق منها، من صميمنا، من واقعنا، من آلامنا، أما الأغنية فتعبر عن الحب فقط، أقل القليل نظم في المناسبات الوطنية، ولكن ليس عندنا أغنيات تعالج مشاكلنا، وفيما عدا الله أكبر التي نظمت لمناسبة خاصة لا نستطيع أن نجد "مارسيليز" عربيا يحرك الحماس في أبناء العروبة".
وفي نظري يحب أن تتناول الأغنية كل ما في الحياة، أنا شخصيا حاولت أن أشق طريقا لنفسي في هذه الميادين الواسعة. وضعت أزجالا في برنامج الظاهر بيبرس، وقلت عن معركة لويس زجلا يصلح ليغني اليوم وكل يوم.
ويمضي بيرم التونسي مناشدا: “أنني أطالب بإعلان الحرب على الأغنية المائعة، أنني أريد من الصحف أن تشن حملة على الانحلال الغنائي والمعاني الساقطة، والأغنيات التي تنحدر بأبنائنا إلى هاوية سحيقة تبعدهم عن معاني البناء والإنشاء التي أصبحت رسالتنا في الحياة”.
الأوبرا في باريس لم تهز وجداني
ويلفت بيرم التونسي إلى دور التراث الشعبي في مد الأغنية والفن بشكل عام بروافد تصيغ فن ينتمي للشخصية المصرية قائلا: “استمعت في باريس إلب كل الأوبرات المعروفة التي تعتبر ثروة الموسيقيين العظام في أوروبا وروسيا، والحقيقة أنني لم أحس بها تهز وجداني وتملك إحساسي كما يقول كل الناس، فأنا رجل محدود الفهم غي هذه الأمور، والسيمفونيات الكبيرة تستغلق على لأنها ليست لساني، لأنها ليست أنا وأنت، والشرق.. هذا طبعا لا يقلل من قيمتها الفنية ولا ينقص من مكانتها في التراث الموسيقي الذي اكتنزته الإنسانية”.
ويستدرك بيرم التونسي: "الأوبريت الويد التي هزتني من أعماقي هي "معروف الإسكافي". لماذا؟ لأنها صنفت على نمط شرقي موقع على الوحدة الشرقية، وفي مخلفات المتقدمين من ملحنينا ثروات يجب أن نلتفت إليها، ونبحث عنها، ونسمعها للناس. صحيح أن هذه الأشياء تحتضر سواء زردنا أو لم نرد ولكن هذا لا يقلل من قيمتها الفنية فإن الغالبية العظمي من أبناء الغرب يعشقون الجاز والروك أندرول ولكن هذا ليس معناه أن السيمفونيات والموسيقي الكلاسيك بأنواعها قد اندثرت أو فقدت عظمتها.
ويضيف بيرم التونسي: “وفي شبابي سمعت سيد درويش يغني أدوارا لداود حسني، وداود حسني الذي مات فقيرا معدما لم يقدره أحد، لا حيا ولا ميتا، أما سيد درويش فقد كان هذا الرجل ويعتبره مدرسة ضخمة هو أول الذين نهلوا من ينبوعها الصافي، وإذا كان سيد درويش أول عبقرية حقيقية في موسيقانا فقد قدر داود حسني هذا التقدير فلماذا لا تقدره الإذاعة؟ لماذا لا تبحث عن ألحانه المسجلة على أسطوانات وتذيعها ولو مرة في العام، في في يوم ذكراه؟ أم أنها تفضل الألحان الجديدة حتى لو كانت هذه الألحان ملطوشة كما هي من مقطوعات عالمية يعرف العالم كله أنها لفيردي ولسواه، ثم تذيعها الإذاعة على أنها لعلان أو لترتان؟”.
دعوة للتنقيب عن التراث الغنائي المصري
ويختتم بيرم التونسي، مقاله بدعوة إلى التنقيب عن التراث الغنائي المصري، قائلا: “أنا متفائل بالأدب الشعبي، أن المجلس الأعلى للفنون والآداب ومصلحة الفنون والإذاعة توليه من عنايتها الشيء الكثير، الأمر الذي كان يجب أن يحدث من نصف قرن مضي وتكون لنا رفقا تقدم فنوننا الشعبية من موسيقي وغناء ورقص، ولكني أتمنى أن أري في مصر مصلحة تهتم بالفلكلور بكل ألوانه، وتكون لها إمكانيات تجميعية”.
ويقترح التونسي: “فتخرج البعثات إلى الأقاليم وتذهب إلى القري والدساكر وتنقب عن حفظة التراث الشعبي من أزجال ومواويل، ثم تطوف هذه البعثات بقبائل البدو في صحرائنا الشرقية والغربية وسيناء وتجمع أهازيجهم، وفيها الرائع والمليء بالطرف والملح والعبقريات”.
ونستطيع أن نهذب هذا كله، من قصصنا القديم نقدم قصصا، ومن أهازيجنا وأزجالنا التي عمرها أو بمعني أدق عمر بعضها ــ خمسة قرون، نقدم فصولا جميلة مشوقة، ومن الإيقاع نجد ألحانا جديدة.
وأنا أعرف زجالا يعيش في المنيل اسمه "العجيلي" يحفظ أكثر من عشرة آلاف من المواويل والقصص الشعبي وهو لا يكاد يجد قوت يومه، ويعيش من الغناء في المقاهي البلدية والموالد. وتستطيع مصلحة الفلكلور، أو يستطيع المهتمون بالفنون الشعبية في هذه الأيام، أن يأخذوا من "العجيلي" كل ما عنده بعشرة حنيهات فقط.
أن أدب الشعب يحظى بتقدير واحترام في كل مكان في العالم. وإذا أنفقنا بضعة مئات الألوف من الجنيهات لكي تكون مكتبة الفلكلور، فأننا نحفظ تراثا عظيما يكاد ينقرض، ونقدم للأجيال القادمة كنزا تذكره لنا بالفضل والعرفان.