موسم الحج إلى أبيدوس
فى الرابع عشر من كياك.. كل عام.. وهو اليوم الذى يقابله الرابع والعشرون من ديسمبر.. ولمدة أربعة عشر يومًا.. تجرى تفاصيل ومراسم الحج المصرى القديم إلى معبد أبيدوس، حيث مقام رأس أوزوريس ليزرع كل حاج شجرة.. نعم.. شجرة عند رأس السيدة التى وهبت حياتها لمقاومة الشر ولملمة أشلاء الزوج الحبيب من بلاد الله خلق الله.
سحرتنى فكرة أن يذهب المصريون إلى ذلك المعبد الساحر ليس لأداء عبادة كانوا يعتقدونها فقط ولكن ليزرعوا أيضًا.. هذا الجلال والتقديس لمعنى العمار حيث الزراعة التى تخلد الإنسان.. فبدون ذلك الأخضر لا حياة لنا.. وهذا ما يجب أن نعرفه الآن أيضًا.. بدون الفلاح المصرى وزرع إيده.. ملناش قومة.
منذ أيام.. وكأنه أمر مقصود.. صدر كتاب «طقوس وأغانى العديد والحجيج- ورحلة الحج المقدسة إلى أبيدوس» للباحث والشاعر أحمد الليثى عن سلسلة الدراسات الشعبية بقصور الثقافة.. وهو كتاب مهم يرصد طقوس تلك الرحلة ميدانيًا.. صاحب الكتاب الذى عرفناه مديرًا وشاعرًا وهاويًا محبًا لكل ما هو شعبى طيلة رحلة وظيفية استمرت أربعين سنة بين جدران وزارة الثقافة لم تمنع الشاعر العاشق الواعى بتاريخ مصر وحضارتها من رفض القوقعة داخل جدران وظيفته.. سنوات طويلة مارس فيها الليثى ابن مدينة طما دور الأستاذ الذى يشرح لنا ما يعرف بالرقص والغناء والرسم.. لم يترك قرية إلا وذهب إليها يجمع غناء أفراحها وعديدها.. ورغم كثرة الكتب التى دونت أشعار المصريين فى لحظات فراقهم واختلاف تناول الباحثين إلا أن هذا الكتاب يعيد الأمر إلى أصله وغايته.
لقد ارتبطت فكرة الحج إلى أبيدوس عند المصرى القديم بالموت.. وبالخلود أيضًا.. وكان المصريون القادرون.. بعد إتمام أربعين ليلة من وفاة أحدهم تتم عملية التحنيط.. وبعدها يذهبون به إلى أبيدوس للدفن هناك بالقرب من رأس الإله المحبوب.. لنيل رعايته فى الحياة الأخرى.. هذه الرحلة كانت تتم بجمع أقارب الميت رجالًا ونساء عبر مراكب شراعية.. حيث تنشد النساء أغنيات الوداع.. حيث تعدد المرأة وهى تغنى ذكر حسنات الميت.. فسُمى هذا الفن عديدًا واستمر.. وسُميت المنطقة بالعرابة المدفونة لكثرة المدفونين بها.. ومَن لم يستطع الدفن هناك.. كانوا يدفنون ما يدل عليه كتذكار يعودون إليه فى السنوات التالية فى رحلة حجهم.. التى كانت تتصادف مع فيضان النيل.. الفيضان والرزق سجل المصريون حكايتهما فى أغنياتهم أيضًا مثلما سجلوا رحلة وطقوس الحج التى سجل شاعرنا أحمد الليثى ما تيسر منها فى كتابه الجديد المهم.
أبيدوس حكاية كبيرة لم نكتشفها بعد.. وكل التفاصيل التى تؤرخ لرحلة حج المصريين إلى هناك.. حيث القرية الوادعة جنوب سوهاج.. يعرفها المترددون على متحف برلين أكثر مما يعرفها الذين يعيشون فى جرجا على بُعد نصف ساعة من المعبد.
لقد أهملنا تاريخنا كثيرًا.. وأبيدوس قد تبدو حكاية صغيرة فيه.. لكنها فى عيون العالم وفى حقيقة الأمر تكفى لإقامة دول جديدة تستعير تاريخًا من البلاستيك لتصبح ذات تاريخ.
يسعدنى ما يجرى من تطوير الآن فى مناطق القاهرة القديمة.. وما حولها.. وما يحدث بالقرب من الأهرامات.. حيث المتحف الكبير الذى ننتظر وقائع الاحتفال بافتتاحه قريبًا.. وأعتقد أن مَن فكر فى إعادة الروح للقاهرة القديمة ولأهم مناطق الجيزة التاريخية يملك من الخطط ما يجعله يحج إلى هناك.. إلى أبيدوس.
مجرد إصدار كتاب عن أبيدوس.. وإن كان قد حدث بشكل غير مقصود.. هو أمر طيب فى حد ذاته.. ولكن لماذا لا تكون هناك خطة محددة للنشر.. تبحث فيما انقطع لتصله؟.. لقد بذل الشاعر الصديق جرجس شكرى جهدًا طيبًا قبل أن يغادر موقعه بسبب الروتين والمعوقات.. وتعد سلسلة الكتب التى تبحث فى شخصية مصر وتكوينها.. والتى أصدرها منذ سنوات.. عملًا مهمًا أتمنى ألا يتوقف.. مثلما أتمنى على هيئة الكتاب.. وهى الجهة صاحبة الحق الأصيل فى النشر فى بلادنا.. أن تفيق من تلك الغيبوبة التى تظلها منذ سنوات.. وأن تضع خطة نشر تناسب ما يجرى من تطوير فى العمارة المصرية القديمة بأن تعيد نشر ما تملك من كتب تؤكد هذه الهوية فى هذا التوقيت القاتل.. الذى يسعى فيه البعض إلى رسم خرائط جديدة تقوم على تمزيق هذا العالم القريب منا وتشويهنا بغرض تفتيتنا.
كلنا مطالبون الآن بالحج إلى هناك.. حيث مصر التى تعرف.. وتبنى.. وتزرع.. وتغنى.. وتتعبد.