شرفة لبنى «2»
لماذا توقف رحيم عن إلقاء الشعر كما اعتاد كل صباح؟، سيخبرها فى لقائهما التالى عن الأستاذ محمد سباق، مدرس أول اللغة العربية، الذى أنهى إعارته إلى ليبيا منذ أسابيع قليلة، تعرفين أنه تلميذ العقاد، قال رحيم وأضاف:
لقد تم تعيينه مشرفًا على إذاعة المدرسة، وطلب إلينا أن يراقب النصوص قبل قراءتها بيوم على الأقل، سألته لبنى:
ولماذا لم تفعل؟، قال: ليست لدىّ كتابات مسبقة، فأنا أرتجل وفق ما يلفت نظرى من أحداث اليوم أو اللحظة ذاتها، حين أفاق كانت دائرة من وجوه قد انتصبت فوقه مثل خيمة حجبت ضوء النهار، مد يمينه فتلقفها أحدهم مساعدًا إياه على النهوض، شكرهم وهو ينفض الغبار الذى علق بثيابه، لوح مودعًا وانصرف، لا شىء يؤلم مثل الغدر.
قالها لنفسه وهو يتداعى على مشهد لم يبرح ذاكرته أبدًا، كان ذلك عندما بلغ العاشرة وأصبح بالصف الرابع الابتدائى بمدرسة مواصلة حلوان، التى تقع بين شريط القطار وجبل المقطم وتحديدًا فى غداة مشاجرته مع مجدى عبدالغنى ابن ناظرة مدرسته الابتدائية وزميل دراسته، المشاجرة التى خلفت شجًا بجبين الأخير، حين اكتمل طابور الصباح استدعته طمان ليتوسط فناء المدرسة، ثم أمرت ابنها أن يتقدم ويصفعه على وجهه أمام الجميع، ابتلع رحيم ريقه بصعوبة بالغة وهو يكتم غضبه، واساه زملاء الفصل وسألته أبلة عطيات عن سبب ما جرى، حكى موجهًا نظره إلى مجدى: لا تأخذ الحقوق هكذا والسلطة لا تدوم فلا تتذرع بها، أمس باغتنى مجدى فى طريق عودتى من مكتبة الحى، لم يكن وحده، كان معه سامى زغلول وأسامة ذكرى الذى غافلنى وانحنى خلفى وبدفعة من سامى سقطت على ظهرى، ولما نهضت لم يكن غير مجدى أمامى فعصرت رقبته تحت ذراعى وطرحته أرضًا فشجت رأسه، عنفته وانصرفت معتقدًا أن كل شىء قد انتهى، تمامًا مثلما يعتقد هو الآن، لكنى أقسم أمامكم إننى لن أترك حقى وسوف أحصل عليه بنفس المكان وأمام الجميع، فى طريق العودة كان فريد فوزى عن يمين رحيم وبقى عربى سلطان عن شماله كأنما يحرسانه، قال عربى، لا تدع شيئًا يحول دون تفوقك، وأضاف فريد: غيرته منك تقتله. مشى وهو لا يدرى لماذا تذكر ما جرى فى أعقاب هزيمة ٦٧ وصافرات الإنذار بالغارات وسواتر الطوب الأحمر وشكائر الرمل، ولما تأخر فى النوم ذات غارة فنسيه الأهل وهرعوا للخندق، حين استيقظ نظر من النافذة المطلية بالأزرق فوجد قمرًا يتدلى قريبًا منه، حتى كاد يمسكه لولا أن ارتفع فجأة فأمسك بالهواء لكنه استبشر خيرًا، على كل حال سيفى رحيم بما وعد به، فى الليلة التى سبقت امتحان نهاية العام الدراسى والذى أوشك على الغياب عنه لما لم يجد ثيابًا مناسبة لولا أن تفتق ذهن الأم عن حيلة مكنتها من صناعة بيجامة بيضاء من فضلات ملاءات الأسرة وأقنعت ابنها بالذهاب بها، على مضض امتثل رحيم بعد أن وقف طويلًا أمام المرآة، وبعد أن أثنت حنان على مظهره وكذلك فعل الأب، فى فناء المدرسة الواسع وعقب امتحان المادة الأولى وبحضور كل التلاميذ وغياب ناظرة المدرسة طمان لانتقالها للإدارة التعليمية فكانت فرصته، ناهيك عن أن مجدى سخر منه وأهانه، جاى تمتحن ببيجامة! ضحك البعض، وقبل أن يواسيه البعض الآخر انهال رحيم ضربًا على مجدى وسمير ذكرى وسامى زغلول حتى أفقدهم الوعى، وطرحهم أرضًا وأهال بحذائه التراب عليهم، وكان أن حمله تلاميذ الصف السادس وتبعهم جميع التلاميذ وهم يهتفون باسمه ويمجدون شجاعته وإقدامه، تلاميذ الصف السادس الذين حملوا جميله فى أعناقهم عندما استدعاه الأستاذ عبدالمعطى، مدرس اللغة العربية، ذات صباح ليعرب لهم جملة فشلوا فى إعرابها، فما كان من عبدالمعطى إلا أن أخرجهم وذنبهم على سبورة الفصل، وطلب إلى رحيم أن يبصق على وجوههم لكنه أبى رافضًا على حد قوله أن يبصق فى خلقة الله، فترصده أستاذه وشكك فى مواضيع التطبيق التى يكتبها بمهارة فعقد ما يشبه امتحانًا فى مادة التعبير على أن يكتب التلاميذ موضوعاتهم فى حصتى المادة، لكن عبدالمعطى اتسعت عيناه وهو يقرأ ما سطره رحيم ببلاغة وموضوعية حسده عليها وصحبه لبيته مهديًا إياه بعض الكتب، قبل أن يمضى رحيم معه كان التلاميذ أوصوه أن يسرق السوط الذى يضربهم به الأستاذ، بالطبع لم يفعل ذلك، لا لأنه رفض السرقة بل لرؤيته بأم عينه عدد السياط التى يسلخها الأستاذ من إطارات السيارات ويصنع منها أكوامًا لا نهائية، أفاق من شروده وهو يتحسس ألمًا حك فروة رأسه للتو، من أولئك الصبية الذين اعترضوا طريقى عند بيت لبنى؟ هل لهم علاقة بمجدى؟ أم لصوص، أم قطاع طريق؟ سوف تأتيه الإجابة ظهيرة اليوم التالى حين تفاجئه لبنى عند جبانته المعهودة وهى تعتذر منه: أبناء الغفير هم من فعلوا ذلك بتكليف من أبيهم إذ ظن أنك تترصدنى وتضايقنى، حكيت لأبى فكاد يقطع عيش الرجل لكنى رجوته ألا يفعل، وأنا هنا الأن لأخبرك أنهم على استعداد للاعتذار منك، هل توافق؟ بل أنا المدين باعتذار وامتنان لهم، يطمأننى أنهم تصرفوا على هذا النحو، قالت: هل بك من ألم؟ فأجابها: فداك كل شىء، همست بصوت ناعم: يكسوك الشجن والحزن يقول: الحزن سيدى
يضاجع العيون بالمساء
ويختبى فى قهوة الصباح والشاى المرير
الحزن سيدى وسيد القطارات التى تمر لا تعود
والعصافير التى تمر لا تعود
والوطن
الحزن سيدى وقصة الزمن.