فى عابدين.. لا تسأل عن صنايعية ولا سباكين
منذ انتقلت للسكن بمنطقة باب اللوق بحى عابدين فى وسط القاهرة، وخلال عشر سنوات على الأقل، حاولت مرتين البحث عن «سباك» لإصلاح بعض الأعطال الطارئة بمطبخ الشقة وحمامها، فى المرة الأولى دلنى عامل شركة للإنشاءات تحتل الطابق الأول من البناية على شاب فى مدخل الأربعين من عمره، هاتفته قرب الثانية عشرة ظهرًا، فأخبرنى بأن لديه «مرمة» فى منطقة قريبة، ووعدنى بأنه سوف يأتينى بمجرد أن ينتهى منها، فقلت «لا بأس»، وانتظرته، أو مكالمة تليفونية منه.
مرت ساعة، واثنتان، وثلاث، فقلت يبدو أنها «مرمة» كبيرة، وربما تستغرق منه اليوم كله، فلا يتمكن أن يأتينى بعدها. وعندما انطلق صوت الطفل الذى يؤذن لصلاة العصر من زاوية مقتطعة من محطة البنزين بالميدان، رن هاتفى المحمول، وظهر اسمه على شاشة التليفون، فتركته يرن حتى ينتهى ذلك الطفل ذو الصوت الضعيف والنشاز، والطريقة العجيبة فى نطق المفردات التى تشبه كلمات الأذان، وطلبته بعدها، ليخبرنى بأنه سوف يكون قدام «حضرتى» بعد أن يؤدى الفريضة فى جامع عبدالدايم القريب، قلت: «خير، المسجد على بُعد خطوات، والصلاة لن تستغرق أكثر من دقائق»، وتوقعت أن الأمر لن يستغرق منه نصف ساعة على أكثر تقدير، إلا إذا حدثت فى الأمور أمور.
بالفعل حدث ما توقعت تمامًا، ومرت ساعة، واثنتان، وثلاث، فتأكد لى أن الأمور قد حدثت، ولا مفر من الانتظار حتى يظهر «الأمور» بفتح الألف لا ضمها كما فى «الأمور» التى عطلته.. وهو ما حدث فعلًا، وقبل أذان المغرب بقليل، ظهر قدام الباب شاب نحيل، متوسط الطول، تنبئ طريقة تهذيبه لشاربه، والعناية بملابسه، عن ذوق معقول. ولأننى ممن يحكمون على الأمور بظاهرها، تفاءلت، وقلت: «من يعتنى بمظهره، لا بد أن يعتنى بعمله»، أدخلته إلى المطبخ، وفرجته على الحمام، وشرحت ما أريد منه، ثم بدأت فى إعداد الشاى، بينما أتابع تحركاته بطرف عينى، دون أن أفهم سر رحلته المتكررة ما بين الحمام والمطبخ، قلت: «ربما يعاين الأعطال، فمن الوارد أنها مرتبطة ببعضها البعض»!!
ساعة يا مواطن دون أن يُخرج من شنطة عدته، التى ألقاها بجوار الغسالة، مفكًا أو مفتاحًا، «فرنساوى أو صليبة أو أى مفتاح بأى اسم».. أى شىء، أى حركة تدل على بداية العمل، وتريح بالى الذى انشغل بمواعيد تم تأجيلها، وأخرى ألغيتها عندما انتهى من كوب الشاى الذى طلبه «ست معالق سكر»، حسب حسبة ما، وطلب منى نقودًا لشراء قلب لحنفية المطبخ، وبعض الأسلاك والقطع اللازمة لعمله، فامتثلت، وزدت فوق حسبته بعض النقود تحسبًا لاختلاف الأسعار.. عاد بعد ساعتين ليستأنف ما بدأ، ثم بعد ساعتين أخريين قال إنه قد انتهى من إنجاز ما طلبت وانصرف.
ما استوقفنى فى تلك الزيارة العجيبة، أنه خلال الساعات الثلاث التى أنفقها «الأمور» داخل شقتى، وصلته خمس مكالمات طويلة من إناث، ولاحظت تورد وجهه مع رنة هاتفه الذكى فى المرات الخمس، وكم «السهوكة» ونعومة الصوت التى باغتته طوالها، كلها، واختلاف تفاصيل الحوار، رغم أنه كان يناديهن جميعًا بكلمة نداء واحدة «يا حبيبتى»، وأنه لا يعرف القراءة والكتابة، هذه لم تظهر من المكالمات بالطبع، ولكن من طلبه منى أن أقرأ له رسالة إحداهن على «الواتس آب»، وأن أكتب لها نيابة عنه أنه سوف يحدثها «فيديو» بعد صلاة العشاء، لأنها وحشته، ويريد أن يراها فى قميص النوم الذى اشتراه لها بالأمس.. ابتسمت، وكتبت له ما طلب، ثم سألته عن صاحبة الرسالة، وأنا أهز رأسى متباهيًا باكتشافى أن هذه الأخيرة هى طبعًا زوجته.. وهنا ارتفعت ضحكته الساخرة أو المندهشة منى، وهو يقول لى: «فيه إيه يا باشا؟!.. ولا واحدة منهم مراتى. هو أنا اتجننت عشان أتجوز؟!»، ولكى أدارى على خيبتى، سألته كيف يتواصل معهن وهو لا يعرف القراءة والكتابة؟! فلم يهتز له جفن، بل ابتسم بخبث واضح وهو يعلمنى: «بص يا باشا.. شايف رسمة الميكروفون دى؟! دى بقى لو دُست عليها تبعت رسالة بصوتك، وتقول فيها كل الكلام اللى أنت عايزه، مش محتاجة يعنى!».. فتحت فمى فيما يشبه الدهشة، وصحت كالمتفاجئ: «يا راااجل؟!»، هنا عاد التورد إلى خديه، وبان عليه الكسوف، وهو يشير إلى أعلى الصفحة التى كان قد فتحها، ويسألنى: «رسمة الكاميرا دى بقى، لو دست عليها تعمل إيه؟!»، فعادت إلى وجهى علامات الدهشة، وأنا أقول منتصرًا: «تبعت فيديو؟!»، بان الانزعاج على وجهه وهو يقول بنبرة جادة، متقمصًا شخصية العالم ببواطن الأمور: «فيه إيه يا دكتور؟! لأ طبعًا.. لو دست على الكاميرا تعمل أحلى مكالمة صوت وصورة.. التليفون ده بقى دنيا تانية يا دكتور»، كان واضحًا لى أنه أضاف من عنده حكاية «يا دكتور» تلك سخرية من جهلى الذى بان له، ولكى يبرهن لى على تفاهة مسألة القراءة والكتابة التى استشعر منها معايرة لم أقصدها بالتأكيد.. لم أستسلم له بالطبع، وسألته عما يفعل إذا كتبت هى له رسالة، فلم تبد على وجهه أى انفعالات وهو يقول: «عادى.. ربك بيرزق، الدنيا مش ح تعطل يعنى».. ابتسمت وأنا أربت على كتفه عند الباب، وأقول له مودعًا: «على فكرة أنا مش دكتور ولا حاجة»، فارتفعت ضحكته وهو يغادرنى قائلًا: «عادى يا باشا.. ما أنا كمان مش سباك ولا حاجة».
ضحكت بدورى غير مصدق عبارته الأخيرة، التى اعتبرتها مزحة مناسبة للرد على كلامى، أو أنه حكم «الإفيه».. أغلقت الباب، وعدت إلى المطبخ لكى أتمم على ما قام به من شغل، ومنه إلى الحمام، فالمطبخ مرة أخرى، ومنه إلى الحمام ثانية.. ثم إلى حجرة النوم، حيث ألقيت بجسدى فوق السرير وكلى يهتز من الضحك، لأنه لم يكن يمزح، نهائيًا، وأنه بالفعل «لا سباك ولا حاجة».