«فى يوم وليلة».. ما الذى تفعله النساء بعد سن الأربعين؟
ربما لا يمكننا الإقرار بأن ثمة شيئًا غير معتاد تفعله النساء حين يتخطين سن الأربعين، لكن كان للمخرجة والكاريوجرافر نيرمين حبيب رأى مغاير فى مسرحيتها «فى يوم وليلة»، التى قدمتها مؤخرًا على مسرح نهاد صليحة، كنتاج لبرنامج الإقامات الفنية الذى ينظمه مهرجان «ليلة رقص معاصر»، الذى قدمت عروضه فى عدد من المسارح موزعة بين القاهرة والإسكندرية.
فما الذى فعلته نساء عرض «فى يوم وليلة» الأربعينيات؟، إنهن نساء عصريات، قويات بما ينبغى لامرأة أربعينية خبرت الحياة واختبرتها الحياة، وأدركت الحكمة الكامنة فى جسدها والقدرة غير المحدودة فى روحها، امرأة من جيل الثمانينيات بمفرداته الخاصة جدًا وحساسيته المفارقة، تلك المرأة ونظيراتها من النساء يرقصن فيضربن الأرض بأقدامهن بقوة فتنبت الحكايات، يغنين فيصدح صوتهن غير عابئ بالمقامات ويظل على نشازه جميلًا وشجيًا، يقاومن الزمن بالحكى فتنسال الحكايات على شفاههن ويلتضم اكتمالها بنقصانها، يتقلبن مع هرموناتهن بطواعية، فيبكين دون سبب واضح، ويبتهجن دون مقدمات، ويضحكن بصوت عالٍ، وينغمن ضحكاتهن كما يهوين، فلم يعد لأى ما كان سلطة عليهن تسمح بأن يطلب منهن كتم الضحكات أو خفض الصوت، يحلمن بفارس الأحلام.. وفارس الأحلام هنا ليس معادلًا للرجل لكنه معادل للحلم الذى طالما راقصنه فى خيالهن ولم يتحقق، يتشبثن بكل ما مر من جمال ودفء، ويرفضن البرودة والوحدة، يتأهبن للهبات الساخنة، ويختبرن أجسادهن بالحركة والرقص ومحاولات الطيران المتكررة، ينسجمن فى الاتكاء على الكنبة وبالاتكاء على بعضهن.
إن ما فعلته نساء عرض «فى يوم وليلة» فعلًا هو ممارسة نسوية بحتة، وهى التضامن مع بعضهن البعض والاتكاء على بعضهن البعض، فكل منهن تشعر بما تشعر به الأخرى وتساند الأخرى وتسمع الأخرى، حتى لو بدا الحديث مجرد ثرثرة لا هدف منها سوى مشاركة الحكى والضحكات، وحتى فى مشهدية الحركة يبدو لنا فى كثير من الرقصات والتصميمات أنهن يتحركن ككتلة تسند كل منهن الأخرى، ورغم جماعية الحركة لا تخطئ العين فردانية أداء كل منهن.
كل هذا قدمته نيرمين حبيب فى عرضها «فى يوم وليلة» الذى نجحت فيه، فى مفارقة الطابع المجرد لعروض الرقص الحديث، ففى العادة يتسم المحتوى المقدم فى عروض الرقص الحديث بالميل إلى تقديم الأفكار والمعانى المجردة، حيث يسهل تشخيصها عبر التعبير بالجسد، لكن نيرمين حبيب ونساءها قدمن لنا عرضًا اجتماعيًا كوميديًا معالجًا فى قالب الرقص المعاصر.
اختارت المخرجة والمصممة لعرضها ثلاث نساء من البارزات فى مجال الرقص المعاصر، لكل منهن مدرسة فى الرقص لها سماتها، وكل منهن لها بصمتها فى الرقص المعاصر، فـ«ميريت ميشيل»، التى تعمل فى هذا المجال منذ سنوات بعيدة، قدمت العديد من العروض، وهى مصممة الرقصات فى كليبات أغانى النجوم، وتتميز مدرسة «ميشيل» فى التعبير الحركى بأنها فى ظاهرها تبدو تلقائية وبسيطة لكنها فى الواقع حركات مدروسة مستندة لأفكار تترجم بجمالية وسلاسة، فضلًا عن خفة الظل التى تميزها كمؤدية، أما «شيرين حجازى»، مؤسسة فرقة «عوالم خفية»، فصاحبة مدرسة خاصة جدًا فى الرقص، تستلهم تكنيكات الرقص الشرقى وتعيد إنتاجها فى قالب معاصر، وهى أحد مصممى الرقص الذين شاركوا فى التصميم الحركى لرقصات استعراضات موكب نقل المومياوات، و«نغم صلاح» الراقصة المتمكنة التى لها باع طويل مع الرقص المعاصر.
ونيرمين حبيب مصممة رقص حاصلة على العديد من المنح، والتى كان لها دور فى التدريب على الرقص المعاصر فى محافظات الصعيد ووجه قبلى، وتعتمد مدرستها على البحث فى مكامن الروح ومحاولة تجسيد تقلبات الروح فى تشكيلات جسدية، ولا شك فى أن العرض حمل سمات الأربع راقصات، فيبدو أن الإقامة الفنية التى طالت بينهن سمحت بهذا الدمج بين مناهج مختلفة ومتنوعة فى التعبير الحركى، هذا التنوع أثرى المشهد ورفع سقف الاستمتاع ووصل لقلوب الجماهير، ويمكننا القول إن «فى يوم وليلة» عرض عاطفى موجّه للنساء، بالأخص من جيل الثمانينيات، حيث يستند إلى نوستالجيا هذا الجيل، حنينه إلى مفردات بعينها، لكن فى الحقيقة، سواء كنت رجلًا أم امرأة، وسواء كنت من جيل التسعينيات أم الستينيات أم الألفية، وسواء كنت امرأة أربعينية أم ثلاثينة أم عشرينية أم سبعينية، فلا بد لهذا العرض أن يلمس روحك وينفذ إلى قلبك بسلاسة.