لم نكسب شيئًا
عملًا بنصيحة «اعرف عدوك» شرعتُ فى قراءة مذكرات جولدا مائير، أحد أشهر من شاركوا فى تأسيس إسرائيل ورئيسة وزراء هذا الكيان أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣، لم أتوقف أمام شىء بقدر توقفى أمام حديث «جولدا» عن حرب ١٩٤٨، وفق وجهة نظرها الشخصية فقد كانت كل الدول التى حاربت إسرائيل صاحبة مصلحة ما عدا مصر.. تدّعى جولدا مائير- وأنا لا أوافق على ادعائها- أن كل بلد عربى كانت له مصلحة مباشرة فى الحرب ما عدا أكبر دولة عربية وهى مصر.. فهى تقول مثلًا إن الأردن كان يحارب لأن حكومته ترى أرض فلسطين- وقتها- جزءًا من الأردن، وبالتالى تسعى لدحر الإسرائيليين لضم هذه الأرض للأردن، وتدّعى أيضًا أن العراق كانت له مصلحة فى إيجاد منفذ على البحر المتوسط من خلال أرض فلسطين حتى ولو من خلال الأردن، وتدّعى أيضًا أن كلًا من السوريين واللبنانيين كان من طموحهم ضم الجليل الأعلى وشمال فلسطين إلى أراضيهم فى حالة دحر العصابات الصهيونية وفشل إعلان دولة إسرائيل، ولكن جولدا مائير عندما تصل لمصر تقول: «كانت مصر هى الدولة العربية الوحيدة التى لا مصلحة لها فى فلسطين، ومع ذلك خاض المصريون الحرب».. بغض النظر عن رفضى الادعاءات التى ساقتها جولدا مائير إلا أن ما قالته عن عدم وجود مصلحة لمصر فى خوض الحرب صحيح من وجهة نظر يهودية أمريكية هاجرت لإسرائيل، لذلك قال أحدهم إن الشرق والغرب لن يلتقيا أبدًا. تعبّر جولدا مائير عن وجهة نظر عملية براجماتية لا تقيم وزنًا للعواطف المشتركة بين البشر وإن ادعت عكس ذلك. لم تفهم الرائدة الصهيونية أن المصريين طالما تصرفوا وفق عواطفهم الوطنية والقومية دون اعتبار لأى شىء آخر، قاوم المصريون الحملة الفرنسية رغم إغراءات كثيرة قدمها الفرنسيون ومزايا متعددة حاولوا إقناع المصريين بها، كرر المصريون نفس الأمر مع الإنجليز وحاربوهم بشدة، ورفضوا الاقتناع بأن الاستعمار يحمل لهم أى ميزة، وهو ما أثار دهشة لورد كرومر، المعتمد البريطانى فى مصر، تكرر نفس الأمر مع بدء ملامح قضية فلسطين فى التشكل، تنادى المصريون لنصرة أهل فلسطين، وجمعوا التبرعات لمساندة الفلسطينيين منذ ثلاثينيات القرن الماضى حتى الآن.. من الوارد طبعًا أن مائير فى المذكرات التى كتبتها فى السبعينيات كانت تدس السم فى العسل، وتسعى لإخراج أكبر دولة عربية من معادلة الصراع مع العرب، ولكن «كان غيرها أشطر» فما زالت مصر فى قلب معسكر الحق العربى، وإن تغيرت وسائلها فى الصراع، بينما يهرول غيرها من العرب هنا وهناك. أظن أن ما قالته جولدا مائير عن موقف مصر ما زال صالحًا للرد على مروجى الشائعات الإلكترونية، والمزايدين على موقف مصر فى كل عصر، وكل موقف، وكل حرب، وكل صراع. عدم وجود مصلحة لمصر وقبولها التضحية من أجل فلسطين يصلح مفتاحًا لتفسير كل المواقف من حرب ١٩٤٨ التى تحدثت عنها مائير، وحتى رفض مصر وجود قوات أجنبية فى البحر الأحمر، فرغم الضرر الكبير الذى يهدد إيرادات قناة السويس نتيجة نشاط الحوثيين، إلا أن مصر ترفض أن تكون فى معسكر واحد مع إسرائيل، ترفض مصر أن تشارك فى نشاط عسكرى معادٍ لطرف عربى أيًا كان، وتتحمل وجود تهديد لعائدات قناة السويس التى تشكل مصدرًا لا غنى عنه للعملة الصعبة «تسعة مليارات دولار» تقريبًا. وجهة نظر مصر أن نشاط الحوثيين فى البحر الأحمر مرتبط بالعدوان الغاشم على غزة، وبالتالى فالمنطق هو إيقاف السبب لا محاولات إيقاف النتيجة، إذا أقنع الغرب إسرائيل بإيقاف العدوان على غزة فهو ليس فى حاجة لخوض حرب جديدة فى البحر الأحمر يصطف فيها نصف دول العالم خلف الحوثيين ويصطف فيها النصف الآخر ضدهم، ثم تكون الاشتباكات مبررًا لوجود غربى دائم فى باب المندب، إيقاف العدوان على غزة يغنى عن ذلك كله، أما تضحيات مصر فهى حلقة فى سلسلة طويلة يقدمها المصريون برضا وسماحة لأنهم لم يتخيلوا أنفسهم أبدًا فى معسكر واحد مع إسرائيل، لا فى الماضى، ولا فى الحاضر، ولا فى المستقبل.. هذا هو قدر مصر، واختيارها، ومكانها، ومكانتها.. لكن الصغار لا يفهمون ذلك لأنهم صغار.