ماريو وأبوالعباس: إشراقات أنوار القلوب فى رواية ريم بسيونى
أراد أفلاطون طرد الأدباء/ الشعراء من مدينته الفاضلة لكون الشعر والأدب مجرد محاكاة للحياة الفانية التى هى بدورها مجرد صورة باهتة من عالم المثل. ولكن أرسطو جاء من بعده لينصف الأدب ويبرز الدور المحورى الذى يلعبه فى تهذيب النفس الإنسانية والارتقاء بها. فمن خلال التماهى مع أبطال النص وما يلاقونه من نوائب الدهر تتطهر نفس المتلقى/ القارئ/ المشاهد وتسمو روحه. ومنذ ذلك التاريخ ظل هذا التطهر بأساليبه المختلفة هو أسمى أهداف الأدب بكل أشكاله. تأتى رواية ريم بسيونى الجديدة تحت عنوان ماريو وأبوالعباس لتأخذنا فى تجربة روحانية قلما تنجح فى الوصول إليها الروايات الحديثة. ولا عجب فهى تتناول قصة حياة أحد أقطاب الفكر الصوفى وأحد أولياء الله الصالحين الذى طالما تعلقت به أرواح وأفئدة المريدين عبر الزمان والمكان. تسبر الرواية أغوار الروح فى جهادها للانتصار على كل ما هو دنيوى زائف من نشوة الشهوة، سواء كانت شهوة المال أم النساء أم الشهرة أم الغضب والانتقام أم الرياسة والسلطة، وهى جميعها تمثل المغريات التى تعرض لها أبوالعباس واستطاع أن يقهر نفسه ويهزمها فى رحلته نحو الفناء فى الحب الإلهى. وتعرض الرواية صورة مشرقة للتصوف النقى الحقيقى الذى ينأى بنفسه عن البدع والخرافة والكرامات الوهمية، وللزهد الذى يتعدى لبس الصوف إلى معرفة الله الحق حتى وإن أصبحت الدنيا فى يدك فلا تتمكن منك أو تملك عليك قلبك. وتلقى الرواية الضوء على الفارق الجلى بين شيوخ السلطان بكل نفاقهم وسعيهم المحموم للقرب من أصحاب السلطة وبين العالم الحق الذى يسعى إليه الرؤساء والخلفاء ولا يسعى إليهم.
تأبى ريم بسيونى إلا أن تفاجئ القارئ مع كل رواية جديدة بتطور ملحوظ فى فنها الروائي وقدرتها الفنية والإبداعية. فبالرغم من تفرد إنتاجها السابق خاصة مع بداية اتجاهها للرواية التاريخية مع رواية أولاد الناس ونجاحها الملحوظ الذى ضمن لها مكانة خاصة على المستويين النقدى والجماهيرى، إلا أن تمكنها من أدواتها الروائية وضح بصفة خاصة فى هذه الرواية الأخيرة ماريو وأبوالعباس.
"طرق الباب" بداية غير تقليدية تفتح الباب لتأويلات عدة، هل هي مقدمة بقلم الكاتبة بشكل منفصل عن متن الرواية ذاتها، وهو ما يعززه البدء بالإشارة إلى رواية سبيل الغارق التي انتهت منها الكاتبة لتوها، أم أنها جزء من الرواية فيما يشبه القصة الإطارية التى تفتح الباب للقصة المتضمنة وهى قصة كريستينا التى تقابلها الكاتبة على متن الطائرة، وتصر على أن تحكى لها حكايتها مع ماريو روسى المهندس الذى بنى مسجد أبى العباس المرسى الشهير بالإسكندرية. ولكنها فى الحقيقة لا تروى حكايتها الشخصية مع ماريو، ولكنها تروى ما رواه لها ماريو عن حياة الشيخ والولى السكندرى الشهير، ومن هنا تصبح قصة كريستينا هى الأخرى قصة إطارية لقصة أبى العباس فى سرد طرسى معقد ذى طبقات سردية بعضها فوق بعض.
ما وراء القص
فى جزء "طرق الباب" تلجأ الكاتبة إلى ما يعرف "بما وراء القص" لتشرك القارئ فى عملية الكتابة ذاتها وما يتخللها من معضلات وبحث واستقراء للأحداث، وتسلط من خلالها الضوء على فلسفتها فى الكتابة حيث توضح قائلة: "فما نحن إلا حراس للحكايات نتسلمها من فم إلى فم، نحملها كالأمانة، بعضنا يحرفها، والبعض ينساها، والقليلون ممن لا تربكهم الدنيا يدركون ولا يكذبون الفؤاد" (ص5). ويشعر القارئ أن الحكى والسرد قد أصبح للكاتبة، كما هو لبطلتها كريستينا، ضرورة وجودية تضمن لصاحبها البقاء ومقاومة العدم، فكما تصر كريستينا: "ماذا يتبقى منا يا ابنتى سوى صور وبعض حكايات؟" (ص6). وتكمل الكاتبة البناء السردى حتى نهاية الرواية حيث يتبع نفس النظام بشكل معكوس، فتنهى القصتين الإطاريتين -قصتها مع كريستينا مع قصة ماريو وكريستينا- بفصل تحت عنوان "الوصول الأخير لماريو"، ثم تفرد فصلًا أخيرًا تحت عنوان "عنى أنا" تلتقط من خلاله نفس الخط الذى بدأته فى "طرق الباب" من خلال ما وراء القص لتفتح للقارئ عوالم خيالها وتأثير الحكايا عليها والخطوات التى أخذتها لتطوير حكايتها وسبر أغوار شخصية أبى العباس المرسى بكل ثرائها وغناها وروحانيتها، وشخصية ماريو روسى بكل إبداعها وتقلبات الزمن بين نجاح وفشل، حتى إنها تتماهى معهما وتؤكد: "بيننا صحبة حتى وأنا لا أستحقها، وربما لا أكون أهلًا لها قط" (ص260). ثم تمتد عتبات النص لتضيف جزءًا آخر عنوانه "هامش الحكى" لتنهى به الكتاب وتطمئن القارئ على مصير الشخصيات الرئيسة التى تضمنتها الرواية مثل القبارى والبوصيرى وابن عطاء الله وياقوت العرش ونجمة خاتون وماريو روسى ذاته.
وتضم الرواية عددًا كبيرًا من الشخصيات التاريخية والمعاصرة تفصل بينها مئات السنوات، ولكن يجمع بينها المكان، فالإسكندرية حاضرة بقوة ليس فقط كمكان تجرى فيه الأحداث، ولكن كبؤرة رئيسة من بؤر السرد فهى المدينة التى رفض أبوالعباس الخروج منها رغم الاضطهاد، ورغم المكائد، ورغم المنع من الخطابة. وهى موطن نجاحات ماريو الذى أحب العمارة الإسلامية ونهل من معينها وبنى فى الإسكندرية وللإسكندرية أشهر مساجدها ودرة تاجها فـ"أبوالعباس هو الإسكندرية" (ص240)، وهى موطن ريم بسيونى الأصلى ومرتع صباها وشبابها. فهى "مدينة تمكث فى القلب مهما تباعدت الأجساد" (ص256). ومن ثم تصبح الرواية محاولة للإجابة عن سؤال محورى هو: "هل ينتصر المكان على الزمان، أم تبقى الروح حرة خارج أى مكان وزمان؟" (ص 260).
من خلال كل هذه الأجزاء تخرج الكاتبة من برج الإبداع العاجى الذى يختبئ الكاتب عادة فى عليائه ويفصل من خلاله ذاته عن الحكى، هذا الانفصال الذى كتب عنه جيرارد جينيه وغيره من منظرى علم السرد، والذى طالما حذرنا من الخلط بين الكاتب ككيان منفصل عن رواياته من ناحية، وبين الراوى داخل الرواية من ناحية أخرى، ذلك الخلط الذى جاهد أصحاب مذهب ما بعد الحداثة لتحذيرنا منه، لأنه يعطى الكاتب الروائى سلطة على المعنى النهائى للنص الذى يحاولون أن يحرموه منه. فالموت الرمزى للكاتب الذى ينادى به أمثال رولاند بارت ينقل مسئولية توليد المعنى من الكاتب إلى القارئ. ففى زمن اهتزت فيه الثقة فى الحقائق المطلقة -كما يبشر ما بعد الحداثيين- يقع على كتفي القارئ عبء تفسير النص بما يتفق مع قناعاته وأفكاره المسبقة. ولكن بالرغم من تلك المباشرة غير المتعودة حتى فى النصوص التى تستخدم تقنية ما وراء القص، فإن هذا النص معقد البناء بشكل مذهل. فمع البناء الطرسى متعدد القصص والرواة، يأتى أيضًا تعدد الأصوات داخل القصة المتضمنة الرئيسة وهى قصة أبى العباس المرسى. فبالإضافة إلى رواية أبى العباس لأحداث حياته بضمير المتكلم، ناقلًا مشاعره ومجاهداته النفسية والدينية بشكل مباشر إلى ماريو، فإن النص ينقل شهادات معاصرى المرسى عنه لماريو أيضًا، فنجد ما حكاه ابن عطاء الله وبيبرس البندقدارى والبوصيرى وياقوت العرش عنه لماريو، ثم فى أجزاء تتبرع كريستينا بملء فراغات ما أهمله أبوالعباس فى حكاياته لماريو خاصة فى وصف مشاعر زوجته بعد موت ابنهما. ولكن المبهر فى كل هذا هو كيف تقوض الكاتبة الثقة فى كل هؤلاء الرواة، فكريستينا راوٍ غير موثوق به، فحتى ابنتها لا تصدقها لأنها "تتكلم مع الملائكة. تؤمن أمى بالأشباح، أما أنا فأعرف أن حكايتها أوهام" (ص258). ويعضد ذلك أن الأوراق التى تزعم كريستينا وجودها لا أثر لها فى الحقيقة، وكل ما وجدته الكاتبة هو صورة لشيخ بلحية تقول هى إن ماريو قد رسمها لأبى العباس دون دليل على ذلك. كما أن اهتزاز الثقة فى الراوى الأول، كريستينا، يقوض الثقة بالتبعية أيضًا فى الراوى الثانى وهو ماريو الذى لا يصلنا صوته إلا من خلال كريستينا، خاصة أنه يزعم نقل قصة أبى العباس من خلال تواصل مباشر معه هو وأصحابه بالرغم من وجود فاصل زمنى يقارب سبعمائة سنة بين زمانيهما. ولكن كريستينا ومن ورائها الكاتبة تحاولان إقناع القارئ بأن يتخلص من التفكير المنطقى وأن يدخل إلى الرحلة دون قواعد: "لنترك الحكاية تقرر مصيرها" (ص8). فبالرغم من طبقات السرد هذه، وبالرغم من الرواة غير الموثوق بهم، لا يملك القارئ إلا أن يتماهى مع عذابات الرحلة وبهائها وتجلياتها، فيجد كل قارئ ما يتماهى معه ويتعلم كل منا أن يصبر على فتن الدنيا وصعوباتها وأن يكون ممن يشملهم القول بأن "لله عبادًا كلما اشتدت ظلمة الوقت قويت أنوار قلوبهم ".