القبض على جمر العروبة
فى كثير من الأحيان يبدو أن مصر تدفع ثمن موقعها فى المنطقة أكثر مما تستفيد منه، على الأقل هذا هو الوضع حاليًا أو منذ ما عرف بالربيع العربى فى ٢٠١١ الذى كان هدفه المباشر تقويض النظام العربى وفى القلب منه مصر، فضلًا عن تفتيت الدول العربية الوطنية أو الجمهوريات العربية التى انحدرت أنظمة الحكم فيها من ثورات التحرر الوطنى فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى.. استدعى هذا الخطر الداهم أن يقوم المصريون بثورة الثلاثين من يونيو لتدارك الآثار السلبية لثورة يناير ٢٠١١، كما استدعى استراتيجيات جديدة للتسليح بهدف التعامل مع الأخطار المحدقة وتلك التى كانت وقتها تلوح فى المستقبل، انعكس ذلك على ضرورة تغيير الأولويات وتغيير طبيعة الاقتصاد الوطنى لتلبية الاحتياجات الجديدة التى لم تكن موجودة قبل يناير ٢٠١١، وإلى جانب ضغط التغيرات الإقليمية على الموازنة لتدبير السلاح الذى لا غنى عنه فى ضوء التطورات، كانت هناك خسائر حالة السيولة السياسية التى شهدتها مصر منذ ٢٠١١، والمظاهرات الفئوية المستمرة، وتراجع السياحة، وخروج مليارات الدولارات من مصر عبر التهريب، وبعد ٢٠١٣ ظهر تحدى الإرهاب الذى قُدرت تكاليف الحرب عليه بثمانين مليار جنيه سنويًا تحملتها الدولة المصرية لمدة ثمانى سنوات متواصلة تقريبًا.. وإذا كانت الخسائر بسبب «كوفيد- ١٩» وحرب أوكرانيا خسائر مشتركة بين كثير من دول العالم، فإن مصر عادت مؤخرًا لتدفع ضريبة الموقع عبر تراجع فى عائدات قناة السويس بسبب اضطراب الوضع فى البحر الأحمر، وتراجع نسبة السفن التى تستخدم القناة فى آخر شهر بنسبة ٤٪، فى طريقها للزيادة للأسف الشديد، حيث ألغت شركتان من كبريات شركات الشحن فى العالم رحلات الناقلات التابعة لها عبر قناة السويس بسبب هجوم الحوثيين على السفن وهى فى طريقها للقناة، وبلا شك فإن الوضع مركب، حيث تقوم جماعة الحوثى بالهجوم على السفن اعتقادًا منها بأن ذلك يزيد الضغط على إسرائيل، ولا يمكن لمصر أن تهاجم جماعة مثل الحوثيين هجومًا قد يفسر بأنه فى مصلحة إسرائيل، وفى نفس الوقت فإن جماعة الحوثيين تؤدى أداء يمكن وصفه بالأداء «الغشيم»، فمُسيّراتها تترك أهدافها فى إسرائيل لتعرف طريقها إلى الأراضى المصرية دون سبب واضح، ونشاطها فى البحر الأحمر يُلحق ضررًا حقيقيًا بمصر فى وقت نحتاج فيه إلى كل دولار من العملة الصعبة، ورغم أن الدولة المصرية لا تعبر عن انفعالها بشكل علنى كأسلوب ثابت للرئيس السيسى منذ توليه الحكم، إلا أنه من الوارد أن ينفد صبر مصر أو أن تبارك أى ترتيبات تكفل عدم إفراغ السفن فى البحر الأحمر، أو عدم سقوط المُسيّرات والصواريخ الحوثية فى مدن سيناء السياحية، والذى يعنى بدوره مزيدًا من الخسائر.. من الأثمان التى تدفعها مصر لمكانها ومكانتها، أيضًا، تزايد وفود اللاجئين السودانيين نتيجة تطور النزاع فى السودان وتحوله لحرب أهلية، وعدم مبالاة المجتمع الدولى بإراقة دماء السودانيين، ومساندة بعض الدول العربية لميليشيا الدعم السريع ضد الجيش السودانى الذى يمثل النواة الصلبة للدولة السودانية، ويستدعى توافد اللاجئين جهودًا إضافية من مصر لضبط الحدود المصرية من جهة ولمنع المهاجرين السودانيين من الهجرة غير الشرعية لأوروبا من جهة أخرى، فى حين أن استمرار الأوضاع الاقتصادية المتردية فى بعض دول الربيع العربى يدفع مواطنيها إلى الاستمرار فى الإقامة فى مصر وتحويل هجرتهم المؤقتة إلى هجرة دائمة، بل إن بعض مواطنى هذه الدول الذين حصلوا على حق اللجوء فى أوروبا يقومون بهجرة عكسية إلى مصر، أولًا بسبب رخص الأسعار مقارنة بأوروبا، وثانيًا لأسباب اجتماعية ودينية منها عدم رغبتهم فى أن يشب أبناؤهم وبناتهم على العادات الاجتماعية الغربية.. وبالتالى فإن ملف اللاجئين العرب بات يشكل ضغطًا متزايدًا على مصر رغم طبيعة المصريين المرحبة بكل الأشقاء والمحتوية لكل الاختلافات.. باختصار تدفع مصر ثمن وجودها فى منطقة تحولت إلى برميل بارود ومسرح لصراع دولى، وتتعامل مع كل التحديات بثبات وهدوء أعصاب لا بد أن تحسد عليه، ولكن هذه الضغوط هى أحد أسباب الأزمة الاقتصادية بكل تأكيد، ولعل هذا ما يتجاهله الكثيرون أثناء تقييمهم المشهد المصرى الإجمالى، وفى هذا نوع من عدم الإنصاف بكل تأكيد.