لماذا ترتفع الأسعار؟
وسط إيجابيات كثيرة ينعم بها المشهد المصرى مثل الاستقرار الأمنى والانفراج السياسى التدريجى وانتظام وتيرة العمل فى المشروعات القومية الكبرى ونمو مكانة مصر الإقليمية وتعزيزها، وسط كل هذا يبدو ارتفاع نسب التضخم كأحد منغصات حياة كثير من المواطنين فى مصر، وكظاهرة سلبية تستدعى حشد كل الجهود لمواجهتها والتقليل منها بعيدًا عن محاولات البعض استغلالها كأداة للتسخين السياسى أو حتى للابتزاز الشخصى بحثًا عن منفعة هنا أو هناك، من وجهة نظرى المتواضعة فإن ثمة أسبابًا دائمة لارتفاع الأسعار فى مصر، منها تعثر تجربة التنمية عقب نكسة يونيو، والزيادات السكانية الدائمة، وتعثر تجربة التنمية فى السبعينيات وعدم اكتمال التصور الذى وضعه الرئيس السادات بسبب استخدامه أسلوب الصدمة، وعدم كفاءة كثير من مؤسسات الدولة فى عهده واستيلاء المتطرفين على الشارع، ونهاية المرحلة كلها باغتياله مع استمرار نفس عيوب مرحلته دون مميزاتها خلال الثلاثين عامًا التالية لاغتياله.. وقد أدى هذا بشكل عام لأن يصبح ارتفاع الأسعار هو الشكوى الدائمة للمواطن.. لكن الحياة كانت تسير دائمًا للأمام، خاصة مع سفر ملايين المصريين للخارج وتعدد مصادر الدخل رغم سوء توزيع الثروة الوطنية.. وأذكر أن قريبًا عزيزًا من مواليد ثلاثينيات القرن الماضى كان يزورنا فى كل جمعة ليردد مندهشًا أن سعر البيضة أصبح عشرة قروش.. ويروى لنا كيف كان يشتريها بمليم واحد وهو شاب فى خمسينيات القرن الماضى.. ومع ذلك استمرت الحياة لأن دخول الناس وهى تشترى «البيضة» بعشرة قروش أصبحت أكثر بكثير مما كانت عليه وهم يشترون البيضة بمليم واحد.. وأذكر أن والدى- رحمه الله- كان يروى لى كيف أن أول راتب له فى الوظيفة الحكومية عام ١٩٦٥ كان ثمانية عشر جنيهًا كدليل على بساطة الحياة فى الماضى، فى حين كان أول راتب لى عام ١٩٩٥ من مجلة روزاليوسف هو ثلاثمائة وخمسون جنيهًا.. وبمقارنة القوة الشرائية للمرتبين فإن مرتب والدى كان أعلى بكثير، ومع ذلك فقد استمرت الحياة وكان مرتبى يكفينى مع إضافة حاصل العمل خارج الوظيفة الحكومية فى الصحف العربية والكتابة التليفزيونية وغيرها.. ولا أظن أنى وغيرى من الأجيال الأحدث عشنا فى مستوى أقل من مستوى جيل الآباء.. بل إن العكس هو الصحيح مع تزايد الانفتاح على اقتصادات العالم ونمو فرص الهجرة والعمل فى الخارج والمشاريع الخاصة وكل حلول الطبقة الوسطى المصرية التى تقدم عليها بشجاعة مدركة أن العمل وتنمية المهارات الخاصة هو سلاحها الوحيد بعيدًا عن القيود التى تقيد التقدم الاجتماعى فى البلاد المتخلفة عمومًا وفى مصر وقتها خصوصًا.. إذن أول الأسباب هو وجود تضخم تاريخى فى مصر منذ ثلاثينيات القرن الماضى، تقريبًا لم تفلح التغيرات السياسية المختلفة فى التقليل منه وإن ازدادت حدته بمرور السنوات، من العوامل القريبة أيضًا ما أجتهد وأسميه زيادة حدة الحرب الباردة فى العالم منذ ٢٠٢٠ والتى عبرت عن نفسها فى تسريب فيروس «كوفيد ١٩» من أحد المعامل الصينية وما تلاه من إغلاق للعالم بهدف عرقلة النمو الاقتصادى الصينى الذى كانت مؤشراته تتصاعد بسرعة الصاروخ، وقد حدث ذلك بالفعل وما زالت الصحافة الأمريكية تحتفل بين الآن والآخر بسقوط أسطورة الاقتصاد الصينى وببدء سنوات تراجعه.. هذه الحرب دفع ثمنها بكل تأكيد الاقتصادات الناشئة والتى اندفعت فى طريق النمو بهدف تعويض ما فاتها ومن بينها مصر.. أدى الإغلاق لتباطؤ تنفيذ بعض المشروعات ولارتفاع تكلفتها ثم لظهور أزمة سلاسل الإمداد ثم لارتفاع عالمى للأسعار انعكس على الداخل المصرى كما انعكس على كثير من الاقتصادات الناشئة فى العالم.. ولم تكد مصر تفيق من تداعيات الأزمة حتى بدأت الحلقة الثانية من الحرب الباردة باشتعال حرب أوكرانيا، وتلا ذلك هروب التمويلات قصيرة الأجل التى كانت مصر تعتمد عليها بنجاح فى سداد احتياجاتها العاجلة.. هربت هذه التمويلات بسبب القلق الدولى أولًا، وبسبب رفع معدلات الفائدة فى البنوك الأمريكية لأول مرة منذ عقود ثانيًا، والمعنى أن أمريكا «كوشت» على كل الدولارات فى العالم تاركة الدول النامية تعانى عن قصد لسبب فى نفس يعقوب، والأكثر من هذا أن الدولة صاحبة أكبر اقتصاد فى العالم خصصت خمسين مليار دولار لأوكرانيا لشراء أسلحة الموت بدلًا من مساعدة الدول الأكثر فقرًا على الحياة وتلبية احتياجات مواطنيها.. ازداد الفقراء فقرًا وأشرف أربع عشرة دولة فى إفريقيا على المجاعة ورفعت الأمم المتحدة صوتها بالاستغاثة ولم يلتفت أحد، على المستوى الإقليمى فإن تغيرات فى سياسات الدول النفطية التى كانت تقدم التمويلات لمصر منذ ما بعد نكسة ١٩٦٧ كجزء من سياسة إقليمية واضحة للشرق الأوسط وترتيبات سياسية ثابتة ضمن النظام العربى، ولم يكن فى ذلك فضل ولا إحسان من أحد، ولكن تحالفات سياسية واضحة يستفيد كل طرف فيها مما لدى الآخر، وقد كان لدى مصر وما زال لديها الكثير والكثير.. غيرت بعض الدول العربية سياستها فى السنوات الثلاث الماضية واتجه بعضها للتحالف مع إسرائيل لكن عطلت حرب غزة إعلان التطبيع رسميًا لبعض الوقت، ثم كان آخر الحلقات وهى حرب غزة والتى قدرت جهات دولية خسائر مصر والأردن ولبنان المباشرة بسببها بعشرة مليارات دولار خلال شهرين فقط.. ولا شك أن هذه كلها أسباب خارجية موضوعية أدت لارتفاع الأسعار لا ينكرها إلا جاهل ولا يتغافل عنها إلا مغرض ويمكن إدراج هذه الأسباب الخارجية كلها تحت عنوان عريض هو الحرب العالمية الثالثة أو الحرب العالمية الباردة.. ولا يعنى هذا أنه ليست لدينا عوامل داخلية أدت لتفاقم التضخم، سواء من جهة الإدارة الحكومية للأزمة أو من جهة السياسات المصرفية غير الموفقة فى مرحلة من المراحل أو من جهة جشع أغلبية التجار المصريين الذين تحول بعضهم لأعضاء فى مافيا محلية تراكم المليارات من استغلال الأزمات وهو ما سنتحدث عنه غدًا بإذن الله.