بيت الشريعى وأغانى الفشنى المفقودة
تربطنى بالأماكن القديمة وبيوت زمان علاقة غير مفهومة.. أجدنى مسحورًا عندما أمر بها، أو أجلس بالقرب منها أو أتحدث عنها.. كأننى أحد التفاصيل الكثيرة المرسومة على حيطان هذه البيوت.. يحدث كثيرًا عندما أسافر إلى الصعيد أو أمر مضطرًا فى شوارع وسط البلد.. ومنذ أيام دعانى صديق لم أره منذ سنوات طويلة لنلتقى فى مكان يحبه بحى المنيل.. هو الآن يعيش فى «مدينتى» على أطراف القاهرة، لكنه يأتى كل أسبوع للمنيل يلعب الكرة مع أصحابه القدامى، ويتعشى «الحمام» فى أحد المطاعم العتيقة بالقرب من ميدان الباشا.. تلك الشوارع تذكره بأيامه الأولى، حيث كان يعيش بالقرب من جامع عمرو بن العاص فى نفس المنطقة التى يجرى تطويرها حاليًا.. راح يحكى عن ذكرياته فيما نحن ننتقل من شارع ضيق إلى آخر.. أخبرته بأننى كنت آتى إلى المكان لزيارة الموسيقار الراحل عمار الشريعى.. توقف فجأة ليخبرنى بأن أحدًا أخبره بأن البيت الذى شهد ولادة أعظم ألحان عمار وسهر فيه سياسيون ومتمردون وباشوات من زمن ما قبل الثورة، وعاش فيه عمار أجمل أيامه معروض للبيع.. وأن أسرته تطلب فيه مبلغًا خرافيًا.. لحظتها شعرت بألم شديد فى جانبى وكأنها كريزة كلى.. أعرف أن مراد نجل الموسيقار صار رجلًا كبيرًا الآن.. ربما هو يرغب فى الذهاب إلى إحدى المدن الجديدة.. لكننى أعرف أيضًا أنه حريص جدًا على كل تفصيلة فى تاريخ والده.. أسرة الشريعى فى القاهرة والمنيا لديها بيوت مصرية هى قطعة من التاريخ.. أعرف أنهم يحبون هذه البيوت أكثر من غيرهم، وأنهم من المستحيل أن يفرطوا فيها.. لا أعرف لماذا سرحت فجأة وتخيلت أن برجًا مثل الخازوق يصعد باتجاه السماء يخرج لسانه لى وللنيل مكان البيت.. بيت عمار.. لحظتها تذكرت ضحكته فى إحدى المرات التى كنت أحاوره فيها فى إحدى حجرات ذلك البيت الساحر.. كان يتحدث عن بلدياته الشيخ طه الفشنى.. الشيخ من إحدى قرى مركز الفشن وقد كانت تتبع مديرية المنيا قبل أن يعاد تقسيم المديريات وتذهب تبعيتها إلى بنى سويف.. كان الراحل يحدثنى عن المشايخ العظام الذين أسسسوا دولة التلاوة.. وسطروا تاريخ دولة الإنشاد والمديح النبوى.. وجميعهم كانوا مطربين كبارًا. وإن لم يحترف بعضهم الغناء.. لكنه وهو يتحدث عن الشيخ طه الفشنى وبطانته المدهشة، أخبرنى بأنه كان مطربًا جبارًا وبأن رجلًا يونانيًا كان يملك شركة أسطوانات استطاع أن يحصل على صوت الشيخ وسجل له عددًا من الأغانى بعضها من ألحان زكريا أحمد.. ببراءة سألت.. وفين الأغانى دى.. مافيش نسخة منها.. أكيد ضاعت.. فأردف.. عادى.. ثم أكمل بطريقته السهلة البسيطة.. ما تدقش.. بس أكيد فيه سميعة عندهم نسخة منها.. البلد وقتها كان فيها سميعة مالهمش حل.. ومش ممكن تعدهم.
عدت من سهرة المنيل.. أفتش فى الشبكة العنكبوتية عن تسجيلات الشيخ الفشنى.. عشت يومًا سعيدًا مع تواشيحه وتلاوته الفذة.. لكننى لم أجد شيئًا يذكر عن تلك الأيام التى عمل فيها مطربًا.. وعن تلك الأغنيات التى سجلها.
راودنى للحظة إحساس أنه تخلص منها.. بعضهم فعل ذلك.. لكن سيرة الرجل تؤكد أنه لم يكره الغناء.. جاء الفشنى من بلدته شابًا يريد العلم.. رغب وهو الحاصل على شهادة المعلمين أن يدرس فى دار العلوم.. لكن مظاهرات سعد زغلول منعته فعاد إلى قريته فى الصعيد.. وظل هناك لأربع سنوات يمارس فتوته فى قراءة القرآن والإنشاد فى أفراح وليالى وحفلات أهل الصعيد من الفقراء، والباشوات على السواء.. أسرة الشيخ كانت من الميسورين فزوجوه مبكرًا.. لكن غواية القاهرة سحبته مجددًا، فجاء ليعمل ويعيش بجوار أولياء الله فى الحسين.. عرف الشيخ على محمود، كبير دولة التلاوة والطرب، وانضم لبطانته ثم خلفه فى موقعه، سواء فى المسجد أو الإذاعة وذاعت سيرته وشهرته وتعدت حدود العالم العربى.. اقترب من أهل الموسيقى وعاش أيامهم ولياليهم وشارك أم كلثوم وعبدالوهاب فى إحياء حفل زفاف الملك فاروق.. باقى القصة تعرفونها مثلما تعرفون هواياته وحبه ركوب السيارات الفاخرة وسهراته الطويلة فى الإنشاد والمديح البديع حتى قصة ذهاب صوته وفقدانه النطق، وعودة ذلك الصوت الساحر مغردًا من جديد فجأة على جبل عرفات.. كل ذلك نعرفه.. لكننى لم أجد أحدًا يدلنى على الأغانى التى سجلها الشيخ.. لأنها جزء من تاريخ موسيقى المصريين نحتاج إلى دراستها وصيانتها وتوثيقها مثلما نحتاج إلى بيت عمار وأغنياته وحواديته.. فهل هناك من يخبرنى أين نجدها.. هل يخبرنى مراد عمار الشريعى بأن ذلك البيت لن يباع، وإن بيع فلن يحوله أحدهم إلى مجرد خازوق على النيل؟!