متلازمة الإنكار
أتابع حسابات بعض «المعارضين»، فأجد علامات كاملة لحالة «إنكار».. الإنكار مشكلة نفسية كبيرة ينكر فيها المريض واقعه ومشكلاته، يعانى من أعراض اكتئاب واضح مثلًا، لكنه يقول لطبيبه إن حالته فوق الممتازة، وإنه لا يحتاج لأى علاج.. يكون بائسًا وحيدًا تعيسًا.. لكنه يتظاهر أمام الآخرين بأنه فى قمة السعادة، وإذا كانت هناك مشكلة فهى بسبب الآخرين وليست بسببه هو.. تعليقات كثير من حسابات الهاربين للخارج «وللداخل أيضًا» على مشهد الانتخابات، دليل على حالة «إنكار» واضحة.. إنهم لا يرون الواقع ولا يعرفون عنه شيئًا، ويظنون أن المشكلة فى الناس وليست فيهم.. من إحدى زوايا النظر تظن النخبة المصرية أنها مصر، فى حين أنها عدديًا لا تتجاوز واحدًا على مئة من سكان مصر فى أفضل التقديرات، وتظن قطاعات من النخبة أنها تعبر عن شعب مصر، فى حين أنها لا تكاد تعرف شيئًا عن شعب مصر.. حتى الذين ينحدرون من أصول بسيطة منهم.. سرعان ما يقيمون فى القاهرة ويتغير وضعهم الاجتماعى ويرون الشعب بعيون الزائر لا بعيون المقيم، والقصص فى هذا المجال كثيرة جدًا.. لذلك يظن الكثيرون جدًا من «المعارضين» أن رأى الشعب لا بد أن يكون مطابقًا لرأيهم، وأنه إذا ما أقبلت الجماهير على الانتخابات بشكل غير مسبوق، فلا بد أن فى الأمر جريمة، وأن وراءه مؤامرة، وأن خلفه حكاية.. رغم أن أى تحليل منصف للواقع يقول إن الأمر منطقى للغاية، وإن بعض قطاعات المعارضة مصابة بمرض الإنكار.. ففى أوقات التحديات الكبرى، يسعى الناس للاستقرار والاحتشاد خلف مؤسسات الدولة والحفاظ عليها، وتتراجع الخلافات ويعلى الجميع المصلحة العليا.. ولا شك أن مصر تواجه منذ ٧ أكتوبر مجموعة تحديات تتمثل فى الادعاء الإسرائيلى بمسئولية مصر عن جزء مما جرى «وهو ادعاء كاذب» بكل تأكيد، ثم مخططات التهجير المختلفة التى تستهدف أمن وسيادة مصر فى سيناء، ثم الأعباء النفسية والمادية للوضع فى غزة ومشاعر التعاطف المفهومة والخسائر الاقتصادية الواقعة، وهى كلها تستدعى اصطفاف المصريين خلف مؤسسات الدولة المصرية، كما حدث فى سياقات مختلفة، حين توحد الفرنسيون خلف الجنرال ديجول، وكما توحد اليوغسلاف خلف القائد العسكرى للمقاومة جوزيف تيتو، وكما أدرك الأمريكيون أن أيزنهاور هو القائد المناسب للتعامل مع عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالى أقول إن المرشح الأوفر حظًا فى هذه الانتخابات لو لم يكن مرشحًا لوجب عليه الترشح استجابة لتحديات اللحظة، فما بالنا والرجل له رصيد عشر سنوات من العمل الجاد والدءوب والمخطط لرفع شأن مصر بين الأمم، وقبلها رصيده فى حماية ثورة ٣٠ يونيو والانحياز لها.. وبخلاف هذا السبب الجوهرى، وهو الاصطفاف لمواجهة الخطر على مصر.. فإن على بعض قطاعات المعارضة المصرية أن تدرك أنها ليست مصر، ولا تعبر عن الأغلبية فى مصر.. الأغلبية فى مصر هى القوى التقليدية.. العائلات الكبرى والقبائل الممتدة والمواطنون البسطاء الذين يعرفون قيمة الاستقرار.. هؤلاء هم ملايين المصريين الحقيقيين، وهم ليسوا خداعًا بصريًا ولا فوتو شوب، وستظل المعارضة بعيدة عنهم ولا تعرفهم ما دامت تصمم على حصر نفسها فى مقاهى السياسيين وأندية النخبة، وسيظلون هم يسعون نحو الاستقرار وينظر بعضهم للمعارضة شزرًا، وستظل الفجوة بين الجانبين واسعة طالما تمارس المعارضة ممارسات الإنكار النفسى، وتظن أن العيب فى الواقع وليس فيها.. وكما قال القدماء.. لله فى خلقه شئون.