هلباوى الإعلام!
ما الذى يحدث فى مصر منذ عشر سنوات؟ من وجهة نظرى الخاصة فإن ما يحدث ثورة حقيقية تعود مصر بها إلى نفسها، هذه الثورة مثل تقليب التربة الزراعية استعدادًا لغرس البذور الجديدة.. حين تقلب التربة تفاجأ بجذور عفنة كانت راقدة فيها.. ترى «العفن» وكأنه مفاجأة.. ولكن الحقيقة أن جذوره موجودة منذ سنوات.. وأن البعض بات يظن هذا العفن جزءًا من التربة أو مفيدًا لها.. عندما ترى إعلاميًا يعمل خادمًا لدولة أجنبية، ويعلن هذا دون أدنى شعور بالخجل.. أليس هذا نوعًا من العفن؟، نعم ولكن له جذور منذ أربعين عامًا مضت كان فيها الجميع يعتبر الانسحاق أمام من يدفع هو من قبيل الواقعية، وأكل العيش والرزق الذى يحب الخفية.. هذا العفن له جذور كان فيها المسئول الكبير لا يجد غضاضة فى التفريط فى مكانة مصر، وإرادتها، وارتهانها لمن يدفع.. له جذور كان بعض الدول الثرية تشترى ولاء المسئول الكبير بأن تمول شركة يملكها أبناؤه وتمنحها امتيازات فى مجال النفط حتى تضمن أن تظل مصر نائمة ومخدرة وملتزمة بالنص الذى يكتبه غيرها.. فى هذا المجال لا غرابة أن يعتبر هذا الإعلامى وغيره أن عمله خادمًا هو نوع من الشطارة، وأن موقفه «سلعة» وأنه ما دام يجد من يشتريها بالعملة الصعبة فهو ماهر وناجح حتى لو افتقر أداؤه لأدنى معايير الشرف.. فى هذا المناخ الموبوء والذى كان سائدًا منذ عقود لا غضاضة فى أن يعتبر الإعلامى الخادم أن بلده مثل أى زبون، وأن على وطنه أن يدفع له إذا أراد خدماته وإلا فإنه سيكون فى خدمة من يدفع، دون خجل، ودون مواربة، ودون حياء.. فى هذا المناخ الموبوء لا يسأل الإعلامى الخادم نفسه أين تعلم؟ فى مدارس أى وطن؟ أين تدرب؟ فى صحافة أى وطن؟ وأى جمهور هو الذى جعل له قيمة وسعرًا وجعله سلعة يحرص الآخرون على شرائها.. هل تعلم فى مدارس مصر أم فى غيرها؟ وهل صنعه جمهور مصر أم غيرها.. هذه كلها أسئلة منطقية.. لكنها توارت فى عقود سيطرة العفن.. لتصبح المصالح هى اللغة المشتركة.. وتصبح الخيانة مجرد مهنة، ويتحول الوطن نفسه إلى سلعة يمكن أن يبيعها خدم الإعلام لمن يدفع أكثر ويدعون أنهم ليسوا خدمًا ولكن أصحاب وجهة نظر.. لكن الحقيقة أن الخيانة ليست وجهة نظر، وأن طعن مصر فى الظهر ليس وجهة نظر، وأن الإساءة لمصر فى وقت مواجهة مع إسرائيل ليست وجهة نظر، وأن ترديد معلومات مغلوطة لحساب الآخرين هو عمل دنىء وخسيس وليس وجهة نظر، وأن مهارة الإنسان فى عمله لا يعنى أنه يمكن أن يتحول لشخص وضيع ودنىء وخائن وأن يصبح مثلًا فى الرخص.. وبيع الوطن.. بل إن المهارة فى المهنة قد تكون هى الدافع للسقوط.. وأبرز مثال على ذلك المحامى إبراهيم الهلباوى الذى قبلَ أن يكونَ ممثل الادعاء فى محاكمة دنشواى، وأن يتسبب فى إعدام وسجن عشرات المصريين لحساب الإنجليز.. لقد كان دافع الهلباوى للسقوط هو مهارته فى مهنته.. كان هو وسعد زغلول أشهر محاميين مصريين فى زمنهما، وقبلها كانا من الثوار مع عرابي، ومن كُتاب الوقائع المصرية مع محمد عبده، دخل سعد زغلول مجال السياسة وتفرغ الهلباوى للمحاماة حتى صار أسطورة.. كان المصرى إذا تشاجر مع آخر يقول له «هقتلك وأجيب الهلباوى» أى أنه سيحصل على البراءة ما دام محاميه الهلباوى.. وحسب الأستاذ صلاح عيسى فقد كانت هذه المهارة المهنية هى طريقه للسقوط.. فقد ظن أنه يجب أن يظل الأعلى أجرًا.. وما دام الإنجليز سيمنحونه الأجر الأعلى فإن عليه أن يخدمهم حتى ولو على حساب أبناء وطنه.. وكان يظن أن مهارته تستطيع أن تقلب الحق باطلًا والباطل حقًا، وأنه اذا ترافع عن الإنجليز فسيقنع المصريين بأنهم على حق.. لكنه فشل، وأصبح مثلًا على الخيانة والسقوط، وعاش مطاردًا منبوذًا يحاول أن يكفر عن خطيئته فلا يستطيع.. وأظن أنى أجامل الإعلامى الخادم حين أشبهه بإبراهيم الهلباوى الذى كان وطنيًا تورط فى الخيانة.. فى حين أن «الإعلامى الخادم» بدأ حياته خادمًا وسينهيها خادمًا حتى لو امتلأت خزائنه بالنقود، وسكن القصور.. وستظل نبرة صوته الذليلة وهو يرد على سيده أمام عدسات الكاميرا دليلًا على أنه سيعيش خادمًا، ويموت خادمًا لأن هذا هو اختياره، وهذا هو تكوينه النفسى، وهذا هو فهمه للنجاح.. أن يكون خادمًا لدى من يدفع.. فهنيئًا له باختياره.. ولكن عليه أن يتذكر أنه سيعيش خادمًا ويموت خادمًا.. والحياة اختيارات كما نعرف جميعًا.