جريمة حض على الكراهية!
على وسائل التواصل الاجتماعى حالة جدل «غير صحى»، هناك حسابات تستشعر الخطر من وجود المقيمين العرب فى مصر وهذه ليست مشكلة.. المشكلة الحقيقية فى الحض على كراهية هؤلاء الضيوف المقيمين.. هذه جريمة.. هناك جانب إيجابى فى الموضوع وهو أن أصحاب هذه الكتابات دافعهم المعلن هو حب مصر.. الوطنية شعور نبيل وواجب وفرض عين على كل مصرى، لكن التطرف فيه يقود صاحبه إلى الفاشية والعنصرية والانحراف نحو اليمين النازى.. من الواجب أن نحب وطننا، ومن الخطر أن نظن أننا أرقى جنسًا من الآخرين.. نحن نحب مصر لأنها أرضنا كما يحب الشخص أمه.. ليس بالضرورة أن تكون أم الشخص أفضل من أمهات الآخرين، لكن من المنطقى أن يحبها أكثر من حبه لأمهات الآخرين.. لأنها ببساطة أمه.. ثمة رياح عنصرية تهب من حسابات تبشر بالقومية المصرية وهذا خلط واضح.. حب الوطن لا يعنى كراهية أوطان الآخرين.. أحد هذه الحسابات قال إنه يستقى أفكاره من آباء الوطنية المصرية مثل أحمد لطفى السيد وطه حسين.. هذا خلط فاضح.. هؤلاء كانوا مفكرين ذوى نزعة إنسانية لم يُعرف عنهم أبدًا الدعوة لكراهية الآخرين أو الانتقاص منهم.. دعا أستاذ الجيل لطفى السيد للوطنية المصرية بدلًا من الانتماء لإطار فضفاض كان يسمى الجامعة الإسلامية.. كانت دعوته تعبيرًا عن ميلاد مصر كوطن مستقل عن التبعية العثمانية والاحتلال البريطانى، ولكن دعوة الوطنية المصرية لم تشبها أى شائبة عنصرية أو دعوة لكراهية أى جنس آخر بما فيه الجنس السكسونى الذى يحتل مصر.. كانت هناك معارضة للإنجليز وعمل ضدهم وتفاوض معهم وفضح عيوبهم دون أى دعوة للكراهية عند القطاع الأعظم من الوطنيين المصريين.. على وسائل التواصل الآن حملة كراهية ضد ضيوف مصر تخلط القليل من الحقائق بالكثير من الأكاذيب.. بداية فإن التسعة ملايين المقيمين فى مصر ليسوا لاجئين بالمعنى القانونى، حيث للجوء تعريف معين لا ينطبق سوى على أقل من نصف مليون أجنبى فى مصر، فى حين يحمل الآخرون صفة مهاجرين مؤقتين أو دائمين.. الجنسيتان الأكثر تواجدًا فى مصر هما السودانيون وعددهم أربعة ملايين شخص موجودون منذ الثمانينات وما قبلها تطبيقًا لاتفاقية الحريات الأربع ولمواثيق التكامل بين البلدين.. والمبرر فى عمق التاريخ هو أن السودان كان جزءًا من المملكة المصرية، وبالتالى فالأمر مفهوم ومبرر.. والجنسية الثانية التى تستهدفها حسابات القومية المصرية هى السوريون، وهم أيضًا كانوا جزءًا من موطنى دولة الوحدة بين مصر وسوريا «١٩٥٨-١٩٦١».. فشل تجربة الوحدة لأسباب موضوعية ليس مبررًا لتذكر هذا بعد ما يقرب من ٦٥ عامًا والدعوة لكراهية السوريين بأثر رجعى بسببه..! بكل تأكيد فإن نسبة جرائم مثل غسيل الأموال وتمويل الإرهاب لفئة من الناس دون دليل واضح هى دعوة كراهية تصرخ صحافتنا إذا واجهنا مثلها فى أوروبا وأمريكا، لكن بعضنا لا يجد حرجًا فى توجيهها لحاملى جنسية كاملة دون دليل.. من ناحية التاريخ فإن مصر والشام شكلا دائمًا إقليمًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واحدًا.. لمراحل تاريخية طويلة.. حين نذكر الهجرة السورية لمصر لا بد أن نذكر أسماء مثل سليم وبشارة تقلا مؤسسى جريدة الأهرام، وجورج زيدان مؤسس دار الهلال، وفاطمة اليوسف مؤسسة روزاليوسف، وآل نقاش الذين أدخلوا فن المسرح إلى مصر، وجورج أبيض مؤسس المسرح القومى برعاية الدولة المصرية التى أرسلته لتعلم المسرح فى أوروبا.. لم يكن ممكنًا لهؤلاء الرواد تحقيق النجاح لو لم تستضفهم مصر.. لكنهم أيضًا أفادوا مصر بنوع مختلف من المعرفة أتيح لهم فى الشام لأسباب مختلفة.. من الناحية التاريخية المواطن الشامى مهاجر بطبعه وهذه سمة حضارية منذ عهد الفينيقيين وحتى الآن.. فى بداية القرن الماضى هاجر آلاف السوريين لأمريكا الجنوبية ولم يستولوا على البلاد التى هاجروا إليها ولم يغيروا خصائصها الحضارية.كلنا درسنا فى المدارس أشعار شعراء المهجر الذين لم يكونوا سوى شوام هاجروا، وأتاحت لهم تجربتهم إفادة الثقافة العربية ورؤية العالم بعين مختلفة.. فى مذكراته يحكى نجيب الريحانى «والده عراقى بالمناسبة» عن سفر فرقته وغيرها من الفرق للأرجنتين والبرازيل لإقامة العروض المسرحية لعرب المهجر هناك.. وهو ما يدلك على مدى كثافة أعداد المهاجرين.. وما أقصد أن أقوله إن أى مجموعة مهاجرين لا يمكنها تغيير خصائص مجتمع أو السيطرة عليه، وترديد مثل هذه الخرافات هو استهانة بشعب مصر وجيشها ومؤسساتها المختلفة، فضلًا عن كونه جريمة نشر كراهية وتهديدًا للسلم الاجتماعى بالمعنى الحقيقى للكلمة.. لا أحد يستطيع أن يمنع مواطنًا من حب وطنه مهما كانت ثقافته محدودة أو تعليمه ضحلًا، لكننا يجب أن ننتبه جيدًا إذا ما حاول محدودو التعليم صياغة الرأى العام أو دفعه فى اتجاه كراهية معين، لأن هذا يحول المجتمع لبرميل بارود قابل للانفجار فى أى لحظة.. عرفت مصر دائمًا أنها البوتقة التى انصهرت فيها أجناس مختلفة وستظل كذلك دائمًا.. وأى دعوة لحرمانها من هذه الميزة هى دعوة جهل تضر أكثر مما تنفع أو تضر من حيث تظن أنها تنفع.