الصهاينة العرب!
هل وصف مجموعة من الناس بأنهم من «الصهاينة العرب» وصف أم سباب؟ من ناحية المصطلح فإن الصهيونية فى العالم كله ليست سُبة.. إنها تصف من يؤمنون بحق اليهود فى العودة إلى جبل «صهيون»، سواء كانوا من اليهود أو غيرهم.. ومن ناحية الدلالة فإن وصف عربى أو مسلم بأنه «صهيونى» هو أقرب إلى السباب لأنه يُنسب إلى العدو، وبالتالى هو متهم بشكل ما بخدمة العدو.. هذا الجدل ليس جديدًا على ساحة الفكر العربى وله تنوعات متعددة.. دائمًا كانت هناك أطياف مختلفة فى التعامل مع قضية فلسطين ومع إسرائيل ككيان.. هذه الأطياف كانت تعبر عن رؤى متعددة، لكن دماء الشهداء التى سالت على الأرض العربية حسمت الأمر عاطفيًا ووجدانيًا فى اتجاه رؤية إسرائيل كعدو دائم وأبدى وككيان دخيل لا بد له من وقت يختفى فيه ويلفظه الجسد العربى.. هذه الرؤية دعمها وساعد فيها تصاعد الاتجاهات العنصرية الكريهة وسيطرتها على الحكم فى إسرائيل لما يقرب من ربع القرن.. ثم دعمها فى السنوات الخمس الأخيرة الرغبة فى دفن القضية الفلسطينية للأبد والرغبة فى السيطرة الاقتصادية على المنطقة بتمويل من بعض الدول العربية، والسعى للإضرار بمصالح الدول العربية الكبرى التى وضعت خططًا لحصارها عقابًا على قوتها وما قدمته من تضحيات كبرى، وإدراكًا لأنها الخطر الحقيقى الذى يهدد إسرائيل.. وعلى رأس هذه الدول مصر بكل تأكيد.. إدراك المواطن المصرى هذا أسهم فى مضاعفة مشاعر التعاطف مع أهل غزة والفلسطينيين عمومًا، وضاعف من مشاعر العداء لمن اصطلح على تسميتهم بالصهاينة العرب.. تاريخيًا حمل هذا الفصيل من المثقفين تسميات مختلفة مثل «المطبعين» أو «مجموعة كوبنهاجن» أو «مجموعة القاهرة للسلام»، ولكن الحقيقة أن ظهور هذه المجموعات كان مرتبطًا بتصاعد نفوذ أنصار السلام فى اسرائيل ولوجود حكومات من حزب العمل الراغب فى إقرار السلام.. ورغم أن وجودهم كان نوعًا من الدبلوماسية الشعبية بالتنسيق مع الخارجية المصرية فى أغلب الوقت، فإن الشعب لم يتقبلهم.. وظلت علامات الاستفهام تحيط ببعضهم حتى نهاية حياته.. الوضع الآن مختلف، فلا حكومات سلام فى إسرائيل، ولا حزب العمل موجود على الساحة من الأساس، وآخر زعيم له تم اغتياله عقابًا له على رغبته فى إقرار السلام مع العرب.. وبالتالى فمن الطبيعى أن يستقبل الناس أى عربى يتبنى وجهة نظر إسرائيل بالاستهجان والامتعاض والتشكيك فى نواياه.. وليس غريبًا أن يكون من بين الممتعضين من الصهاينة العرب فريق من المؤمنين بأن التفاوض هو الحل الأمثل للقضية الفلسطينية، وأنا من بين المؤمنين بالتفاوض كحل وحيد للقضية.. لكن التفاوض له آليات وتكتيكات ومراحل وشد وجذب وأدوار متعددة تقوم بها فرق مختلفة.. لا يمكن أن نصل إلى نتيجة إذا قلنا لإسرائيل إن ٤٠٠ مليون عربى يرفعون الراية البيضاء ويقرون بحق إسرائيل فى الوجود والاستيطان والفصل العنصرى وإننا نرجو منها أن تتفضل علينا بالسلام.. وقتها لن نحظى من إسرائيل بمجرد التفاتة! من نافلة القول إن السلام تصنعه القوة وتحميه القوة.. مصر لم تحصل على أرضها بالسلام إلا بعد أن أذاقت إسرائيل نار الحرب.. ودون نصر أكتوبر لم نكن لنحصل على متر أرض واحد بالسلام.. هنرى كيسنجر وزير خارجية أمريكا نفسه اعترف بهذا وصارح به الرئيس السادات.. العالم نفسه الآن لم يتذكر حل الدولتين إلا بعد عملية ٧ أكتوبر التى حملت اسم «طوفان الأقصى».. من المغالطة الإساءة لفكرة المقاومة بدعوى عدم الاقتناع بحركة حماس كفصيل فلسطينى.. أى حركة تحرر لا بد أن تضم فصيلًا متطرفًا ومتشددًا أيًا كان لون هذا التشدد.. فى السبعينيات كان الفصيل المتشدد فى حركة التحرر الفلسطينى ذا لون يسارى، لأن هذا كان هو حال العالم وقتها.. مع صعود التيارات الدينية ظهرت حماس كحركة ذات طابع دينى.. لكن هذا لا ينفى أنها حركة مقاومة من الأساس، وأن وجودها مفيد فى موازنة الصلف والتطرف اليمينى فى إسرائيل.. من قلب الحركات المتطرفة يولد سياسيون معتدلون يكونون هم الأجدر بالتفاوض لأنهم يخيفون العدو بالفعل.. فى ١٩١٩ كان محمود فهمى النقراشى وأحمد ماهر هما القائدان الفعليان للجهاز السرى للثورة.. فعلا كل ما يجب فعله لإرهاب الإنجليز والضغط عليهم فى المفاوضات ونجحا فى ذلك إلى حد كبير.. بعد عقدين من الزمن أو يزيد، كان كل منهما يتحلى بالمرونة السياسية الكافية ليس فقط للتفاوض مع بريطانيا، ولكن أيضًا لشغل منصب رئيس الوزراء فى بلد تشكل السفارة الإنجليزية فيه أحد أضلاع مثلث الحكم.. لا يعنى هذا أنهما افتقرا إلى الوطنية، لكنهما تحليا بالنضج اللازم للتفرقة بين العمل السرى فى زمن الثورة والعمل السياسى فى مراحل تالية.. شىء من هذا سيحدث مع بعض أجنحة حركة حماس، ومصر يجب أن ترعاه وتحرص عليه بما لها من دراية كبيرة للغاية بالحركة وبالفصائل عمومًا وبدقائق الوضع فى غزة بشكل أعم.. فى هذه المرحلة فإن خطاب ترشيد المقاومة واستيعابها وتسييسها ودمجها، هو الخطاب المناسب بدلًا من خطاب الكراهية الذى يشيعه بعض الصهاينة العرب وفق الوصف الجديد لهم.. هذا ما أظن أنه الصواب، والله أعلى وأعلم.