تساؤلات وجودية ومحاكمة للإنسان والمجتمع فى «دى- كاف 2023»
من ١٢ أكتوبر إلى ٥ نوفمبر على مدار ثلاثة أسابيع قدم خلالها مهرجان «دى- كاف» ما يزيد على ثلاثين فعالية ما بين عروض مسرحية وورش ولقاءات فكرية، ثلاثة أسابيع شاعت فى أجواء وسط البلد تقاطعات من الجمال والدهشة، والجمهور ينتقل من مساحة لمساحة.. من مسرح روابط لمسرح الفلكى لمسرح السامر، لقاعات ومعارض التاون هاوس لبيت السنارى. ثراء فنى وجمالى وفكرى أشبع رواد المهرجان، الذى أعتبره أحد أهم المهرجانات المسرحية فى مصر والوطن العربى.. من حيث وعيه بالمتلقى وقدرته على انتقاء العروض الأهم فى صلتها بهويته كمهرجان نوعى معنى بالفنون المعاصرة، فجمهور «دى- كاف» هو هذا الجمهور الذى يبحث عن العوالم الجديدة المعاصرة المدهشة التى تستخدم التقنيات التكنولوجية الحديثة أو التى تفارقها تمامًا بصورة جمالية تدهشك أيضًا. وسواء كان جمهورًا عاديًا أو من المتخصصين، فإن هذا الإدراك النوعى للهوية ولذائقة الجمهور المتصلة جعل قاعات المسرح على مدى الـ٢١ يومًا فى كل فعالياتها كاملة العدد، وسواء اتفقت أو اختلفت فنيًا أو جماليًا أو فكريًا مع أى من العروض المقدمة، فإنك بالضرورة ستخرج دون أن تشعر بالخذلان. ولقد انتخبت من عروض المهرجان عرضين لمخرجين مصريين، كانا الأكثر تأثيرًا لما يحملانه من تساؤلات اجتماعية ووجودية ذات صلة بما نعيشه اليوم فى عالم يتفسخ؛ الأول العرض المسرحى «السحر الخفى لأعمدة المجتمع» كتابة وإخراج أحمد العطار، والثانى العرض المسرحى «الأطفال السعداء» كتابة وإخراج عمر غايات.
«السحر الخفى لأعمدة المجتمع».. قصة حب بين فتاة عربية وشاب سويدى
هو عرض من كتابة وإخراج المخرج المصرى أحمد العطار، والمسرحية إنتاج مشترك بين السويد ومصر، وتم عرضها للمرة الأولى فى شهر يناير ٢٠٢٣ على المسرح الدرامى الملكى بالسويد «دراماتين» قبل أن تُعرض ضمن فعاليات الملتقى الدولى للفنون المعاصرة فى دى- كاف- مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة.
يدور العرض حول قصة حب تربط فتاة عربية بشاب سويدى، ويقدم على تضحية اجتماعية بتغيير ديانته من أجل الزواج بها، إلا أن الأسرتين تعارضان تلك الزيجة، حتى يلتقيا ويعقدا شراكة تجارية، فيغريهما الربح فيتحولا كلية إلى داعمين للعلاقة، لكن بمجرد أن تختلف المصالح التجارية يعود الصراع، ويلقى بظلاله وانعكاساته على علاقة الفتاة والشاب، ما يتضح معه عجز الحب على أن يرأب الصدع الذى حدث فى العلاقة، لا بسبب اختلاف الثقافات، ولكن بسبب تعارضات المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إن تلك العلاقة البسيطة صورة مصغرة للعلاقة بين دول العالمين، حيث تتحدد الانحيازات السياسية وفقًا للمصالح الاقتصادية، وتتراجع القيم الإنسانية، وقد تغيب تمامًا ويتم إنكارها والمغالطة بشأنها إكرامًا لقوة وهيمنة المال، هذا الطرح الفكرى عكسه «العطار» بعرض يشارك فيه الفنانون السويديون مع الفنانين العرب ليكون الفضاء مقسومًا بين عالمين ولغتين ونمطين مختلفين، فى الملابس والأكل وآليات الاتصال والتعبير حتى عن العواطف.
ويعتبر العطار أول كاتب ومخرج عربى يتم تكليفه من قبل مسرح «دراماتين»، لتقديم عرض على خشبته، والمعروف بأنه المسرح الوطنى السويدى للدراما المنطوقة، وأحد أهم وأشهر مسارح السويد، الذى تأسس فى عام ١٧٨٨، ويضم خمس خشبات مسرح، تستقبل سنويًا أكثر من ألف عرض مسرحى.
كتب العطار نص مسرحية «السحر الخفى لأعمدة المجتمع» مع الكاتبة والدراماتورج السويدية فيليسيا أولى، وجمعت المسرحية فريق عمل مميزًا ومتعدد الثقافات من سوريا ومصر والسويد، من بينهم الممثلون عادل درويش وألكسندرا جونسون وشارلوتا أكربلوم، ودانكان جرين، وهيلين الجنابى، وعيسى عويفة، ولينيا فيلين، ومحمد إسماعيل، ومونيكا ستنبك، وناندا محمد، وناتالى فارلى، وعلا حسامو، وسرجان ندجيبوفسكى، ومصمم الديكور والملابس حسين بيضون، والمؤلف والمنتج الموسيقى حسن خان، ومصمم الإضاءة تشارلى أستروم.
«الأطفال السعداء».. اختراق عالم المصابين بألزهايمر
الأطفال سعداء دومًا لأنهم لم يحملوا بعد عبء الذاكرة.. والذاكرة هى الوجع بقدر ما هى السعادة، الذاكرة ليست محفزًا لاستعادة ألم مضى زمنه لكنها أيضًا محفز الخوف من تكرار هذا الألم فى المستقبل، لذا فالأطفال حديثو الولادة هم الأكثر سعادة، فبكارة مشاعرهم لم يفضها بعد قسوة الواقع الماضى، ومخاوفهم فطرية ليست ذات صلة بما مضى ولا تستحث لديها قلقًا بشأن المستقبل، هذا الوصف بقدر ما ينطبق على الطفل حديث الولادة أو المولود توًا ينطبق على مرضى ألزهايمر، وهذا الطرح البديع هو ما قدمه عمر غايات فى عرضه «الأطفال السعداء» بحساسية فنية وجمالية أدهشت الحضور.
تدور أحداث العرض فى دار للمسنين، حيث يجلسون جميعًا على شاطئ البحر، بينما الراية الحمراء مرفوعة، ما يحرج معه نزول الماء، وفى حضور البحر تحضر دلالاته المتصلة بالزمن وتقلباته والمتصلة بالماء، الزرقة الممتدة التى نشعر بالصفاء ونحن ننظر لها، ما فسره العلماء بأن النظر للماء والشعور بإيقاعها يساعد على النسيان والشعور بالاسترخاء، بينما النظر للنار يؤجج الذاكرة، لكن هل حقًا يوجد هنا بحر أم مجرد مؤثرات صوتية وبصرية صنعوها لتساعدهم على الانعزال والتمدد فى عالمهم الممتد خارج الزمن؟.
الأحداث تدور على شاطئ البحر فى مشهدية ضبابية، لكنها شاعرية أبدع فى تصميم سينوغرافيته وإضاءته بتلك الشاعرية المخرج والسينوغرافر عمر غايات، ويدخل إلى المشهد عجوز تلو الآخر على عكاز، يختلف شكل أو صيغة العكاز لكنهم جميعًا يستعيرون حركة الأطفال المتعثرة فى البداية، ثم يلقون العكاكيز ويندمجون ما بين حالات اللعب والاسترخاء، ويبدو كأنهم فى أوج النشاط، لكنهم غير متصلين بالواقع لا يصلهم به سوى الممرضات اللاتى يقمن على خدمتهم والاتصالات التى ربما تأتيهم من ذويهم، وهى أمر لا يؤثر فيهم ربما إذ هم لم يعودوا يتذكروا حتى أقرب الناس لهم «الابن: ألو، إزيك يا بابا؟ إنت فاكرنى؟ أنا بس كنت عايز أقولك كل سنة وإنت طيب علشان عيد ميلادك، طيب هحاول أكلمك بعدين».
إنهم منسجمون فى هذا العالم لا يدركون ولا يريدون أن يدركوا شيئًا خارجه، هذا العالم ممتع وبسيط وسهل التعامل معه، لكنه يحدث أحيانًا ويتسرب بعض من الألم من العالم الواقعى القبيح، بعض من الذاكرة التى لا داعى لحملها فى هذا العمر، فتنفجر المُسنة فى البكاء وحين تحاول الممرضة تهدئتها وتسألها: لماذا تبكين؟ ترد بتلقائية مؤلمة: مش عارفة.
ويتوالى سيل المشاعر المتعارضة، فهل يشعرون بالندم أم أن النسيان حررهم من هذا النوع من المشاعر.. الحقيقى أنهم صاروا أحرارًا منه بسبب ألزهايمر، لكن وضعهم يحفزنا نحن ويجعلنا نتساءل: ما الذى أهملناه؟، وسنندم ذات يوم على هدره، ونتمنى لو عشناه واختزنته ذاكرتنا.
فى النهاية، يدق العرض ناقوسًا ينبهنا إلى مأزق يعيشه ذوونا من كبار السن ومرضى ألزهايمر، حين نشعر بكوننا غرباء عنهم، وحين لا نعرف كيف نتعامل معهم، وربما نلومهم على الإتيان بأفعال تلقائية، ربما تسبب لهم ولنا الحرج الاجتماعى، أو نتهمهم بأنهم يدعون النسيان، لأننا لا نستطيع تقبل أن صورتنا لم تعد محفورة بوعيهم، مثلما كانت فى أزمنة مضت، ربما تألمنا وفقًا لأنانيتنا، لأنهم لا يتذكروننا أكثر مما سعدنا لهم أنهم صاروا أحرارًا من وجع الذاكرة وقلقها. لقد جاء أداء الممثلين فى العرض ماريا ربيكا- دومينيك جيسن ميشيل روهينبش، مدركًا الأبعاد الجسدية والنفسية المشتركة ما بين المسن والطفل، وكان إيقاعهم محسوبًا بدقة بالغة حفرت أثرها فى مشاعرنا. وأخيرًا.. من المهم أن نذكر أن عمر غايات استلهم قصيدته المسرحية «الأطفال السعداء» من تجربته مع والدته التى امتد بها مرض ألزهايمر حتى رحيلها، ولذا فقد أهدى هذا العرض المسرحى لها.