عن الدولة الفلسطينية
كلام الرئيس السيسى عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح أثار ضجة كبيرة.. كل ما يقوله الرئيس يثير ضجة عادة، لو قالت مصر إن الشمس تشرق من المشرق لعارض البعض ما تقول.. الذين يعارضون موقف مصر لديهم غرض.. والغرض مرض كما يقول المثل الشهير.. لا أريد أن أتحدث عن عظمة مصر ونبل أهدافها لأنه سيفسر تفسيرًا عاطفيًا لأن من يكتبه مصرى يحب وطنه، لكن الحقيقة أن مصر هى أكثر دول العالم دراية بالقضية الفلسطينية وبإسرائيل أيضًا.. هناك تراكم خبرة تاريخى فى مؤسسات الدولة المصرية منذ الأربعينيات حتى الآن.. فى مذكراته عن حرب ١٩٤٨يتحدث جمال عبدالناصر عن حوار دار بينه وبين ضابط إسرائيلى كان يحاصره فى الفالوجة.. والمعنى أن أربع حروب ومعاهدة سلام وعشرات الآلاف من الشهداء وخمسة وسبعين عامًا من الصراع بالحرب والسلم تجعل ما تقوله مصر رأى خبير، والمثل يقول ولا ينبئك مثل خبير، لقد وصل السلاح الفلسطينى إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، ومن الواضح جدًا أن العالم لن يسمح له بأن يصل إلى سبعة أكتوبر ثانية ولا لنصفها ولا لربعها.. والذكاء هو أن يتم البناء على ما تحقق.. لقد أحدث الانتقام الإسرائيلى حالة تعاطف معقولة جدًا فى العالم مع الحق الفلسطينى، والبراعة تقول إنه لابد من تثبيت لحظة التعاطف هذه والبناء عليها وإلا فإنها ستسيل وتنجرف مع مجرى الأحداث مثلما يحدث منذ عام ١٩٦٧ حتى الآن.. قرارات لا تنفذ، ومؤتمرات تنعقد، ومفاوضات تفشل، واستهلاك للوقت تهدف منه إسرائيل لتثبيت الأمر الواقع وهكذا دواليك، بادئ ذى بدء فإن كل المفاوضات بين العرب وإسرائيل «تحت حكم حزب العمل وأنصار السلام» تحدثت عن دولة منزوعة السلاح بسبب خوف إسرائيل من منح الفلسطينيين نقطة انطلاق للمقاومة على بعد أمتار من إسرائيل، وبالتالى فإن الفكرة ليست من بنات أفكار الرئيس السيسى وإن كان أعاد طرحها بشجاعة وواقعية، هذا أولًا، أما ثانيًا فقد كانت فكرة «نزع السلاح» هى أساس اتفاقية أوسلو وبناءً عليها عاد القائد التاريخى لفلسطين ياسر عرفات إلى غزة.. وبعد فترة أشعل انتفاضة مسلحة ضد إسرائيل كان عمادها قوات «الشرطة» الفلسطينية التى كانت الاتفاقات تنص على السماح لها بتسليح خفيف وشخصى وتنزع عنها السلاح العسكرى، ولا يعنى هذا أننا نريد خداع إسرائيل مرة أخرى، ولكن الفكرة هى تطبيق المثل «خذ وطالب» أو خذ الممكن وطالب بالمستحيل، هذا عن أولًا وثانيًا، أما ثالثًا فهو أن مصر هى التى وقعت اتفاقية كامب ديفيد وليس سرًا أن الدبلوماسيين المصريين كانوا يعترضون بحدة على بعض بنود المعاهدة الخاصة بنزع سلاح المنطقة «ج».. وكان الرئيس السادات يقول لهم إنه يعرف ماذا يفعل.. لقد مرت السنوات لنعرف من الصحافة الإسرائيلية أن المنطقة «ج» لم تعد منزوعة السلاح وأن مئات الدبابات المصرية ترابط فى رفح، وأن سيناء مليئة بالمطارات والقواعد العسكرية.. هل يمكن أن يتعلم الفلسطينيون شيئًا من هذا؟ يمكن لهم إذا أرادوا أما إذا لم يريدوا فهذا حقهم.. من ناحية أخرى لا يمكن الحكم على السيناريو المصرى لمستقبل غزة وهو «دولة فلسطينية بترتيبات أمنية» إلا بعد مقارنته بالسيناريو الإسرائيلى الأولى وهو إخلاء غزة من سكانها وضمها لإسرائيل.. أو بالسيناريو الإسرائيلى الثانى.. إبادة حماس واغتيال كل قادتها واحتلال القطاع بقوات إسرائيلية، أو بالسيناريو الإسرائيلى الثالث.. قوات غربية تحتل القطاع وتشكل واجهة للاحتلال الإسرائيلى وتنفذ أوامره.. ليكتشف أهل غزة أنهم استبدلوا احتلالًا باحتلال وتظل الفصائل الدينية تمارس نفس النشاط لأن العامل الدينى هو الأساس لديها، وستعتبر أن قوات الناتو احتلال صليبى يجب مقاومته وهو احتلال استعمارى بالفعل.. مقابل هذا تطرح مصر حلًا.. يتيح وجود كيان فلسطينى يحظى برعاية دولية، وتجرى فيه انتخابات برلمانية ومحلية تسمح بصعود كوادر سياسية جديدة، وبحكومة يتمثل فيها كل ألوان الطيف الفلسطينى، دون إقصاء، ودون حروب أهلية، ودون تفريط يفقد الناس الثقة فى السلطة الفلسطينية ودون إفراط يصم الفلسطينيين بالإرهاب ويحشد العالم ضدهم.. ما تطرحه مصر هو الحل الواقعى والذى يحمل ذكاء اغتنام الفرصة وما عدا ذلك سيكون تبديدًا لمكاسب ٧ أكتوبر وإتاحة مزيد من الفرص لإسرائيل للانتقام.. إذا مصر قالت نعم فاسمعوها وإن هى قالت لا أيدوها.. هذه ليست كلمات أغنية.. لكنها روشتة نجاة وخارطة طريق.. فاتبعوها.