مسلسلات الدراما واليقظة الذهنية
لم أنتبه أنني صرت حريصة هذه الفترة على مشاهدة مسلسلات الدراما بصفة عامة وخاصة المسلسلات ذات الحلقات المحدودة والتي تتراوح بين ٣ حلقات إلى 10 حلقات.
فلا يدرك الكثيرون كم الفوائد النفسية التي نحظى بها عند مشاهدة المسلسلات، وعلى مدار ساعات متتالية وحلقة وراء الأخرى، إذ تؤكد الطبيبة وخبيرة علم النفس ريني كار، أن متابعة الأعمال الدرامية تساعد المخ على زيادة إفراز هرمون الدوبامين، والذي يخلق الشعور بالمتعة والمكافأة، لذا يقوم البعض عقب انتهاء كل حلقة تليفزيونية بمشاهدة الحلقة التي تليها فورًا، للرغبة في الحصول على المزيد من هذا الدوبامين المنعش.
والمعروف أن الحلقات المحدودة بدأت من المسلسلات الأجنبية، ثم تجرأ الشاب المؤلف عمرو محمود ياسين في أن يكون أول من يبدأ بتنفيذ الحلقات المحدودة في مسلسله نصيبي وقسمتك الذي كان لا تزيد حلقات القصة الواحدة فيه على ٥ حلقات على الأكثر.
فلا يمكن تجاهل أهمية مشاهدة المسلسلات أيضًا في تقليل مشاعر التوتر، حيث تعمل تلك الأعمال التليفزيونية على إعطاء المخ ما يشبه الاستراحة من القلق اليومي الذي يتعرض له في العمل وفي الشارع وفي الأماكن المختلفة التي يتردد عليها بصفة يومية، حتى يمكن للمرء أن يجدد نشاطه ويصبح قادرًا على إعادة ممارسة نشاطاته اليومية في اليوم التالي.
وقد أعقب مسلسل "نصيبي وقسمتك" مسلسل "في كل أسبوع حكاية"، والمسلسل كان يتكون من 30 حلقة، وهو عبارة عن حكايات منفصلة تتقاطع بحيث تسلم نهاية كل حكاية الحكاية التالية، مما يجعل المشاهد مرتبطًا بالعمل طوال الوقت فيما يشبه حكايات ألف ليلة وليلة، وكان يعتمد على حكايات الـ5 حلقات التي تعرض على مدار الأسبوع.
ثم تلاها في الوقت الحالي مسلسل "حدث بالفعل" وكل قصة ٣ حلقات، ثم "مسلسل ٥٥ قصة حب لمصطفى محمود" كل قصة ١٠ حلقات.
وقد نالت المسلسلات الليمتد أو محدودة الحلقات استحسان الجمهور وتغلبت بشكل ملحوظ وبجدارة على مسلسلات الـ٣٠ حلقة نتيجة تطور الزمن وحركته السريعة.
كذلك ترى روبين نابي، وهي أستاذة التواصل بجامعة سانتا باربارا الأمريكية، أن تعايش المشاهد مع إحدى شخصيات المسلسل الذي يتابعه، يساعده على تفريغ مشاعر داخلية لديه، بدرجة تزيد من انغماسه في متابعة مسلسل معين دونًا عن الآخر.
ويشير خبراء علم النفس إلى أن متابعة حشد من الناس لمسلسل ما، والنقاش بشأنه يأتي ببعض الفوائد النفسية، حينما يخلق مناخًا من الترابط، حتى وإن كان بسبب الاتفاق على حب شخصية ما أو كرهها، علمًا بأن العلاقات العاطفية والزوجية تتحسن بدرجة ما، حينما يحرص طرفا العلاقة على متابعة المسلسلات سويًا.
ووفقًا لأحد علماء النفس الإكلينيكيين، تتعرض حياتنا اليومية للتوتر المستمر، ولذلك مشاهدة مسلسلاتنا المفضلة تسمح لأدمغتنا بأخذ قسط من الراحة من كل الضغوط الحياتية.
كما يمكن أن يساعدنا الهروب المؤقت أيضًا برؤية المسلسلات على الشعور بالحيوية والاستعداد أكثر، عند العودة إلى العالم الحقيقي لمواجهة مشاكلنا الشخصية.
وقد وصف أحد الخبراء المشاهدة الشرهة للمسلسلات المفضلة أنها شكل من أشكال "النقل السردي" أو إقناع متلقي القصة، من خلال انغماس المشاهدين في قصة تبدو حقيقية، فالحبكة والتمثيل والموسيقى عوامل تسهم جميعها في الحصول على تجربة عاطفية قوية، مما يسمح لنا بإشراك مشاعرنا الخاصة.
لكن ما لاحظته بنفسي أن المسلسلات بصفة عامة تعطي أملًا بأن هناك شيئًا ما تنتظره في الغد، هناك خيط ممتد إلى المستقبل تمسك به وتهتدي على خطاه لتكتشف المجهول مما يجعل للغد معنى.
فقد أثبتت الدراسات ارتباط المسلسل بالحالة النفسية للمتلقي بما يسمى باليقظة الذهنية التي تم تعريفها بأنها التركيز على اللحظة الحالية بقصد وهدف، وبدون إصدار أحكام، وبأنها الوعي الذي يظهر من خلال التركيز الهادف في اللحظة الراهنة على الأحداث التي تحدث الآن أمامك لحظة بلحظة.
وتعتبر اليقظة الذهنية حالة نفسـية متميزة ومرغوبة، كما وصفها كل من Brown & Ryan بأنها حالة يكون فيها الفرد منتبهًا وواعيًا بالذي يحدث في الوقت الحاضر والوعي للتجربة الجارية أو الواقع الحالي.
وأيضًا تعتبر من المفاهيم المهمة في مراقبة الشخص لأفكاره والعواطف والتنظيم الذاتي والإنجاز وعدم إطلاق أحكام سلبية للذات، وقد بينت فاعليتها في خفض القلق والاكتئاب، والتوجه نحو المستقبل.
يقول مارك ويليامس، وهو بروفيسور في علم النفس السريري في مركز أكسفورد مايندفلنس Oxford Mindfulness Centre، أن اليقظة تعني معرفة ما الذي يحدث داخل وخارج أنفسنا بشكل مباشر لحظة بلحظة.
ففي حياتنا اليومية، بإمكاننا ملاحظة الأحاسيس بالأشياء، ما نأكله من طعام، الهواء الذي يتحرك خلف أجسامنا ونحن نمشي، فجزء مهم من اليقظة هو إعادة الاتصال بأجسامنا والأحاسيس التي نشعر بها، هذا يعني الاستيقاظ للصور الحسية والبصرية بمعناها النفسي والتي تنتقل إلينا عبر مشاهدة المسلسلات وانتظارها بصفة يومية، كل ذلك قد يبدو صغيرًا، لكن له قوة ضخمة لتعطيل أسلوب "الطيار الآلي" الذي ندخل به كثيرًا يومًا بعد يوم وإعطائنا منظورًا جديدًا حول الحياة.
سيكون نافعًا أن نقوم باختيار وقت، نقرر خلاله أن نكون واعين للأحاسيس التي تنتابنا من جراء المشاهدة، وتجربة أشياء جديدة، مثل الجلوس على كرسي مختلف ومتابعة مسلسل درامي يساعدنا على ملاحظة العالم بطريقة جديدة.
ومن خلال انشغال عقلك بمشاهدة المسلسل، فقط راقب أفكارك، "يقول ويليامز: "ارجع للخلف وشاهدها وهي تطوف كأوراق الشجر في فيضان، ليس هناك حاجة لمحاولة تغيير الأفكار أو الجدال معها أو الحكم عليها، فقط قم بمراقبتها، فهو كوضع العقل في وضع مختلف نرى من خلاله ببساطة كل فكرة على أنها حدث دماغي وليست واقعًا موضوعيًا يمتلك القدرة في السيطرة علينا".
فيسمح لنا ذلك بأن نصبح أكثر إدراكًا لدفق الأفكار والمشاعر التي نعيشها ونحن نشاهد مسلسلًا ما، ونرى كيف يمكننا التورط مع هذا الدفق بطرق مفيدة.
حسبما يقول البروفيسور ويليامز: "عندما نصبح أكثر يقظة للحظة الحالية، نبدأ من جديد بتجربة العديد من الأمور في العالم من حولنا، والتي كنا نعدها أمرًا مفروغًا منه".
هذا يجعلنا نعود إلى الوراء من أفكارنا ونبدأ برؤية أنماطها، وبالتدريج، يمكننا أن نلاحظ متى تقوم أفكارنا بالسيطرة علينا وندرك أن الأفكار ببساطة "أحداث عقلية" ليس بالضرورة أن تسيطر علينا.
وخصوصًا عندما نكون مشغولين أو تحت ضغط نفسي أو متعبين، فمعظمنا لديه قضايا يجد صرف النظر عنها أمرًا صعبًا، لكن الانتباه لشيء جديد ومستمر يساعدنا في التعامل معها بشكل أكثر إنتاجية.
ولعل رؤية أنماط أخرى من البشر، ومعايشة مشاكلهم والمشاركة في توقعها وحلها، واستمرار مشاركتهم أحاسيسهم يومًا بعد يوم من خلال مسلسل درامي ما، وانتظار الغد بأمل النجاة أو النصر أو المواجهة أو تحقيق العدل، ربما يؤدي ذلك إلى تغيير أو إصلاح شيء ما، أو لعله يكون وسيلة للسماح لأنفسنا برؤية اللحظة الحالية بشكل أوضح، وعندما نفعل ذلك، فقد يغير بشكل إيجابي من الطريقة التي نرى بها أنفسنا وحياتنا وتساعدنا على الاستمتاع بالعالم من حولنا بشكل أكبر وفهم أنفسنا بشكل أفضل.