جارة القمر
حسنًا فعل وأصاب من أطلق اللقب «جارة القمر»، أراد أن يعلو بها فوضعها بعيدًا، تطل علينا من هناك، تدور حولنا ولا تشتبك معنا، لو بيدى لمنحت من نحت اللقب أعلى الأوسمة، ليس هناك توصيف أبلغ وأدق من هذا، فيروز الشامخة اللامعة المحافظة والوقورة، الممهورة بختم الرحبانية، حيث الأناقة والرقى والعطور النادرة، تظل فى برجها هناك، ليست بحاجة لى ولا أنا بالفعل أحتاجها، تأتى من شباك الجيران، وأحيانًا أبحث عنها كوجبة استثنائية سرعان ما تهضمها معدتى فأعود مسرعًا إلى فايزة وشادية وصباح، أذكر مرة كتبت لحبيبتى رسالة، ربما أدركت حينها موقعى من السيدة فيروز، «مش لازم قهوة وبلكونة وفيروز ولا كل ما أشوفك أغنيلك (حب يسارى)».
أوقات باحتاج أغنية بسيطة بتتكلم عن سوء الحظ وأصحاب السوء، ربما يقف مارسيل خليفة فى مكان مشابه، وربما استعذب دوره كمناضل؛ فسعى للحصول على الوظيفة، لم لا وقد صار أجره بعشرات الآلاف من الدولارات الأمريكية، لم لا وقد حصد مكاسب عديدة، ليس آخرها مئات المعجبات، ولا تنتهى عند بلاط الشيخات والمشايخ، ربما صار الوحيد الذى يوقع بالحضور والانصراف فى دفتر النضال الثورى، الذى يبدأ وينتهى داخل حجرات ضيقة، أو فى مسارح المدارس والجامعات العربية، حاول استلهام تجربة نجم وإمام، ولكن من باب المكاسب، وبمنتهى الحيطة والحذر ليبقى طوال الوقت خارج قضبان السجون، نعم هذا هو النضال الآمن وياله من نضال، يصرخ ويهتف ويقبض وينصرف تاركًا غضبة جماهيره تذوب فى عرق المقاعد، لذلك علق صوته مع عوده هناك فى سماء المقاومة بالبكاء والنحيب، لا أحب مارسيل خليفة، ولا أعرف كيف أنفق عمره فى الحنين إلى خبز أمه وقهوة أمه ولمسة أمه، أو كيف فكر فى تحنيطها هكذا، كأنما ليس لها سوى أن تنتظر.
لا أحب مارسيل خليفة، أكره تلك الرتابة التى تليق بجنازة ديكتاتور، ذلك النحيب على شباك التذاكر، صوته المثبت عند مقام يليق بتمسح قطة جائعة، صوته الفارغ كصحراء.
تطربنى أكثر بساطة ملحم بركات وچورچ وسوف وعمرو دياب فى تعلقهم بالحياة، بينما يقف مارسيل كشهيد محتمل، فيروز بنت النظام الصارم والمسافات الآمنة، حتى إنها تركت شادى يركض ليشاهد، وربما ليشارك فى العركة، وظلت من حينها تنتظر، حتى إنها عندما أخطأ الحنين وطرق بابها لم تعرف «لمين» أو ربما خشيت الإعلان عن اسمه، فيروز ابنة الحياد الإيجابى وعدم الانحياز، فيروز صوت الدبلوماسية العربية المهادنة وربيبة اللغة العربية الفضفاضة وأسيرة الفصاحة الواهية والمبالغة الرنانة والمجاز المخادع، فيروز كما قشرة الذهب، قشرة امرأة، عطلت أنوثتها وطمست مفاتنها بقبولها الخانع لقوانين المؤسسة التى قطفتها وكفنت عطرها، هى ابنة الآلهة وتليق بها الحشمة وقصور الممالك وأوسمة الرئاسة، أحب منها بعضها، ذلك القليل الذى خرج عن النص، تلك المشاعر التى تمردت عليها وفضحتها وكشفت عن ضعف مؤقت أو هزيمة عابرة، نعم أدندن أحيانًا معها «زعلى طول أنا وياك»، وربما أقصدها بالرسالة، فيروز امرأة لا شك، لكنها تحمل بالأيديولوچيات فتلد أفكارًا، هى طاقة هائلة مهدرة كنفط العرب، وجوهرة مستحيلة لا يجرؤ على اقتنائها أحد، فى مراهقتى حلمت بنجمات كثيرات ليس من بينهن فيروز، تلك الراهبة العفيفة مجرد الحلم بها تطاول، لم أستطع أبدًا تخيلها فى وضع آخر غير صورتها كأيقونة خالدة لا تمس، ربما عجزت عن تخيل جغرافيتها وتضاريسها، أما تاريخها فسيظل صامدًا صلدًا وشامخًا كبناية خرسانية عتيقة.