بكل لغات العالم
فى التسعينيات ظهرت أغنية تقول «بكل لغات العالم»، وأنا أظن أن مصر قالت لا لتهجير أهل غزة بكل لغات العالم.. قالها رئيس مصر عقب اتصاله بالرئيس الأمريكى بايدن، وقالها عقب لقائه وزير الخارجية بلينكن، وقالها عقب لقائه المستشار الألمانى شولتس، وأظنه قالها فى مناسبات أخرى كى يسمعها الجميع.. الأمر لم يقتصر على الرئيس فقط، لكنه كلف رئيس وزرائه بالذهاب إلى مجلس الشعب ليقولها واضحة بتكليف من الرئيس، وليرد على استفسارات النواب حول ما تنويه مصر تجاه هذه القضية الخطيرة، وقبلها بيوم كان وزير خارجية مصر فى بكين يقود مجموعة من وزراء الخارجية العرب والمسلمين، ويقول إن مصر ترفض سياسات تهجير الفلسطينيين، وتحذر من تبعاتها على السلم والاستقرار الدوليين.. لذلك عندما يصر الذباب الإلكترونى على إثارة الشك تجاه هذا الموضوع، فيجب أن نعرف أن قوة مصر تؤلمهم أو تؤلم الجهات التى تمولهم، وتصدر لهم أوامر التشغيل.. يمكن القول إن مصر اعتمدت سياسة مستقلة لأقصى درجة، وإنها تركت الجميع يتخيلون سيناريو من فصلين، أولهما ماذا لو غضبت مصر؟ أى حرائق يمكن أن تندلع فى المنطقة؟ أى قوى كبرى ستساندها؟ وما مدى هذه المساندة؟ وما تأثير غضب مصر على أمن الإقليم؟.. الفصل الثانى من السيناريو كان ماذا لو ضعفت مصر؟ كم مليون عربى ومصرى سيقصدون أوروبا، وغيرها من دول المنطقة؟.. أى اضطرابات يمكن أن تحدث فى الإقليم وفى الدول المجاورة؟.. من حسن الحظ أن غضب مصر محسوب، وأن سقوطها غير وارد.. لكن السياسة يجب أن تتحسب لجميع الافتراضات.. لذلك ورغم الضرر الواقع على مصر فى مجال السياحة، وربما فى مجال واردات القناة- إذا اضطرب الوضع فى باب المندب- فإن العالم يدرك أن مصر لن تتحمل مزيدًا من الضغوط.. لذلك نرى حركة استثمارات سريعة فى القاهرة هذه الأيام، ويعلن الاتحاد الأوروبى عن تمويلات قيمتها عشرة مليارات دولار.. وينهى صندوق النقد مرحلة من التلكؤ الطويل تجاه مصر.. ظل فيها يفكر ويفكر ثم يفكر ويفكر.. وفى النهاية لا يمنح مصر التمويل المطلوب.. لكن مرحلة التفكير انتهت كما يبدو.. وسيجد جديد فى هذا الموضوع.. وقيمة تمويل صندوق النقد لا تتوقف على أنه يحل أزمة حادة فى العملة الصعبة، ولكن فى أن الاستثمارات الخليجية فى مصر تربط نفسها بصندوق النقد.. فإذا أقبل أقبلت، وإذا تلكأ تلكأت! لا بأس فى هذا.. يقول الذباب الإلكترونى إن هذا ثمن قبول مصر توطين الفلسطينيين، وأنا أقول إنه نتيجة رفض مصر توطين الفلسطينيين.. فالرفض أحيانًا تكون فوائده لأصحاب الموقف القوى أكثر من أضرار القبول والخنوع.. ومصر من الأقوياء.. لذلك فإن رفضها له فائدة وغضبها له حساب.. لا يعنى هذا أن الأمور وردية، فهناك خبر جيد وخبر سيئ.. الخبر الجيد أن مصر رغم كل هذه الضغوط مستمرة فى خططها للتنمية.. المفاعل النووى لإنتاج الكهرباء يقطع مرحلة تلو مرحلة، وكذلك القطارات التى تربط الأحمر بالمتوسط، والاستثمارات العقارية التى بدأ جنى ثمارها، ولو بشكل بطىء.. أما الخبر السيئ فهو أن دخول التمويلات الجديدة يستدعى تعويمًا جديدًا.. ولكن الحقيقة أن التعويم واقعيًا حدث بالفعل، وكل السلع المستوردة صارت تثمن حسب سعر الدولار فى السوق السوداء.. الناس ليسوا بالضرورة سعداء، لكنهم واثقون فى وطنية القيادة المصرية، وفى أنها تسلك الطريق السليم.. هذه الثقة من أسباب رفع جزء من الضغوط عن مصر.. وهذا أمر معروف.. كانت هناك ضغوط مبالغ فيها قبل الانتخابات الرئاسية بعام كامل كى تتفرق كلمة المصريين.. لكن مصر حسمت أمرها ومضت على قلب رجل واحد، وبالتالى لم يعد هناك مفر من التعامل مع الرئيس الذى اختاره المصريون وتخفيف الضغط المبالغ فيه عن مصر.. على الأقل فى هذه المرحلة.. ولعل القادم كله أفضل بإذن الله طالما أخلصنا النية وتمسكنا بحبل الوطن.