د. فكري حسن يكتب: كارثة غزة والمستقبل الإقليمي
كارثة غزة جرس إنذار للبلدان العربية حتي تعيد النظر في حساباتها ومصالحها في عالم تتسيده قوة مهيمنة لا تتورع عن دعم القوى العسكرية الضارية التي تقوم بالقتل العشوائي للأبرياء والتهجير القسري للمدنيين تحت وابل من الصواريخ والرصاص مستهدفة المستشفيات والمدارس والجامعات في مخالفة صريحة للأعراف والقوانين الدولية والضمير الإنساني، بينما تقف القوى الأوروبية عاجزة عن وضع حد صارم لهذه الجرائم التي تقوم بها قوي الاحتلال ليلا ونهارا علي مرئي من العالم، ومنذ أيام (في 10 نوفمبر 2023) وصف الأمين العام للأمم المتحدة،المنظمة العالمية المنوط بها حفظ السلام،أنطونيو جوتيريش الوضع في غزة بأنه "كابوس إنساني لا ينتهي للمدنيين"، كما جدد مرة أخرى دعوته إلى وقف فوري لإطلاق النار.
وأضاف: "لقد مُحيت أحياؤهم، وقُتل أحباؤهم. والقنابل تنهمر، بينما يُحرمون من أساسيات الحياة: الغذاء والماء والدواء والكهرباء". ومع ذلكلم يصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. أي خطوة لوقف فوري لحرب الإبادة التي قضت علي ما يزيد علي 11،000 انسان و29،000 جريح في غضون شهر وتشريد ما يزيد علي 1.5 مليون فلسطيني، وهدم كلي لما يزيد علي 40 ألف وحدة سكنية"(50% من الوحدات السكنية بالقطاع) وتجرف نحو 25 ألف دونم زراعي، ناهيك عن تدمير البنية التحتية من محطات الكهرباء والمياه والوقود والطرق.
يتحمل مجلس الأمن المسؤولية الرئيسية عن صون السلم والأمن الدوليين.،ومهمته أخذ زمام المبادرة في تحديد وجود تهديد للسلام أو عمل عدواني. ويدعو أطراف النزاع إلى تسوية النزاع بالوسائل السلمية ويوصي بطرق التكيف أو شروط التسوية. وفي بعض الحالات، يمكن لمجلس الأمن أن يلجأ إلى فرض جزاءات أو حتى السماح باستخدام القوة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو استعادتهما. كما أن المجتمع الدولي قد فشل لعقود في منع إسرائيل من التوسع في المستوطنات في الأراضي المحتلة ومن وقف سياسات القمع والترهيب والاعتقال والاغتيال بينما مازال اللاجئون الفلسطينيون في غزة وهم الناجون من حرب 1948 وأبناؤهم، يمثلون 80% من سكان القطاع البالغ عددهم 2،4 مليون نسمة، وفي هذا القطاع الذي يعاني من معدل فقر مرتفع للغاية (81،5%)، مع نسبة بطالة ناهزت 48،1% في عام 2022 وترفض إسرائيل منذ خمسة وسبعين عاما "حق العودة" الذي يطالب به الفلسطينيون، على الرغم من القرار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر 1948.
يجري هذا، بينما تسارع البلدان العربية بالتنديد بما يحدث ومطالبة القوى العالمية بالتدخل لوقف العدوان أو حتي هدنة إنسانية لإدخال المعونات الإنسانية، وما من مجيب، وكأنهم لا يملكون القدرة على الفعل لحسم الأمور والضغط على المعتدين للوقف الفوري لهذه الإبادة الهمجية للفلسطينيين، وكانوا قد تقاعسوا من قبل عن الضغط لإنهاء سلطة الاحتلال وتوسع المستوطنات المخالفة للقانون الدولي كما لم يتمكنوا من إرغام إسرائيل للتوقف عن أساليب العنف والترهيب التي تقوم بها الدولة الباغية منذ 1948، كما لم تنجح الدول العربية في وضع حل دائم لهذه المأساة من خلال اكراه إسرائيل علي حل الدولتين.
وصلت الدول العربية إلى هذه المكانة المتدنية في قدراتها السياسية على الرغم من موقعها الجيوستراتيجي، ومصادر ثرواتها من النفط (55.7 في المائة من إجمالي الاحتياطي المؤكد العالمي، و26.5 في المائة من إجمالي الاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي عام 2020) وغير ذلك، وإعداد سكانها (450 مليون نسمة). ولم تستفيقالبلدان العربية مما لحقها من الاحتلال العثماني من ناحية والضربات القاضية التي وجهها الأوربيون للإمبراطورية العثمانية، كما أنها ما زالت تتخبط في أسئلة الهوية والتراث والحداثة، بينما بعد ما نجح الأوروبيون خلال مائتي عام في أن ينهضوا ببلادهم وشعوبهم عن طريق الصناعة والتجارة والعلم والتكنولوجيا من ناحية الإنتاج، ومن خلال نهج المواطنة وفرص الحراك المجتمعي والتعليم والثقافة والرعاية المجتمعية، ونجحوا أيضا على أساس تنمية القوة العسكرية الساحقة مما عزز من قدراتهم مكنهم من فرض سيطرتهم بقوة السلاح على شعوب العالم من خلال الاحتلال العسكري من 1870 وحتى الستينيات من القرن الماضي، وأن تواجهه مد الحركات الثورية في نهايات القرن العشرين بتحويل الهيمنة العسكرية المباشرة الي هيمنة مستترة عن طريق القواعد العسكرية والصواريخ العابرة للقارات، والدول العميلة، والأحلاف العسكرية، وقدرات النقل والتنقل السريع إلى النقاط الساخنة. كما حدث بالفعل في غزة في أكتوبر 2023، وبالإضافة إلى هذه القوة العسكرية العالمية استخدمت هذه الدول الأوروبية التي نعمت فيما سبق بخيرات الاحتلال والاستعمار، والتي لحقت بها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، قوتها الاقتصادية والمالية والعلمية والتكنولوجية وأيضا الثقافية، للهيمنة على شعوب الأرض لتعزيز مصالحها والاستمرار في تنمية مقدراتها التي تسمح لها بتسيير امورها وتفتيت بل واحيانا تدمير قدرة الشعوب الضعيفة على الانتاج واللحاق بركب التصنيع والعلم والابتكاري.
وتقدم البلدان العربية نموذجًا مثاليًا لهذه الأوضاع التي يمربها العالم منذ انحسار الاحتلال العسكري في الستينيات بما شهدته المنطقة مؤخرًا من تفتيت معظم شعوبها التي كانت بإمكانها أن تستعيد قوتها وتتلاحم لتكون قوة أقليمية لا يستهان بها: تفتت العراق،وتفتت الشام وتفتت ليبيا وتفتت السودان وتفتت اليمن، وأما ظاهرة " إيران" التي بدأت، على الرغم من مثالب حكمها الثيوقراطي، في النهوض بالتعليم والصناعة والعلوم وصولا الي برنامج نووي، فلقد سارعت قوى الهيمنة العسكرية عن بعد بمحاولات لتحجيمها وتهديدها ومعاقبتها من خلال العديد من الآليات،كما لجأت إلى زرع الشقاق بينها وبين البلدان العربية.لمنع أي تحالف إيراني-عربي. وتحينت إسرائيل الفرصة لتجعل من أيران عدوا لدودا يجب التخلص منه لتنفرد إسرائيل بالسلاح النووي في المنطقة وليخلوا لها الجو للتحالف مع الدول العربية في محيط طهران.
حان الوقت لتتنبه شعوب وحكام ما تبقي من الدول العربية متماسكا أن الدور سيأتي عليهم وأنهم في الواقع حاليًا أسرى النظام العالمي الجديد بمخالبه العسكرية وسيطرته الاقتصادية والمالية، وحان الوقت ليقوم الأسري قبل أن يفوت الأوان باستخدام مقدراتهم من نفط ومصادر طاقة ووضع جيواستراتيجي للبدء في فك قيودهم والإسراع من وتيرة التعليم الحديث على أساس اكتساب مهارات التفكير النقدي والوضعي والإبداع والابتكار والتحول من اقتصاد ريعي واستهلاكي إلى اقتصاد صناعي حديث يعتمد على العلوم المتقدمة والمستقبلية ومنها الذكاء الاصطناعي والعلوم الإلكترونية
والتكنولوجيا الحيوية والمعلوماتية الحيوية وتكنولوجيا النانو،من خلال منظومة اقليمية للتعاون والتكامل الاقتصادي، تشمل إيران وتركيا، وتسعي للم شمل الدول المفتتة بما لها من قدرات انتاجية واسواق واعده. فقط حين ذاك سيتمكن الأسري بعد أن يزيلوا الغمامات عن عيونهم ويستطيعون الوقوف منتصبين على سيقانهم أن يحطموا الأسوار التي تحيط بهم وأن يتنفسوا بحرية هواء الكرامة والعزة والتي هي من صميم ثقافتهم الغابرة قبل أن يتخلفوا عن ركب مسيرة التقدم العلمي ويصبحون فريسة سائغة لقوي الاحتلال السافر سابقا والمستتر حاليا.
بالطبع يقف امام هذا التكامل المرجو والضروري أن تتوحد الإرادة السياسية في اطار المصالح المشتركة لإقليم حيوي للغرب والشرق (اليابان والصين والهند) علي حد سواء وعلي أساس تنظيم اتحادي يضمن للجميع التمثيل المنصف لكل دولة مع احتفاظ كل دولة بقوميتها واستقلالها وحكمها الذاتي مع البدء.بجمعيات اقتصادية كجمعية اقتصادية وجمعية علمية تعليمية لتخطيط وتنفيذ التحول التدريجي الي اقتصاد انتاجي مزدهر علي أساس احدث ما تتيحه العلوم والتقنيات ونظم التعليم الحديثة والمستقبلية.