تقدير موقف.. كيف تتعامل إسرائيل مع «غزة ما بعد الحرب»؟
لا أحد فى إسرائيل يعرف متى ستنتهى الحرب تحديدًا، فهناك من يقول إنها ستنتهى عندما يتم تحقيق أهدافها، التى تتمثل فى القضاء على حركة «حماس» الفلسطينية، وهناك من يقول إنها ستنتهى عند تحرير المحتجزين فى القطاع، وهناك من يقول بل عندما يتحقق الهدفان معًا، وإن كان لا يعلم أحد موعد تحققهما.
وتشير التقديرات فى تل أبيب إلى أن الحرب قد تستمر عدة أشهر، لكن بعدها ستبدأ مرحلة «اليوم التالى»، التى تدور النقاشات حولها حتى قبل أن تنتهى الحرب، خاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، دون أن يملك أحد أى إجابة عن المطلوب فى تلك المرحلة، رغم وجود عدد من الخطط والمقترحات التى نستعرضها فى السطور التالية.
تصريحات متضاربة من حكومة نتنياهو.. وخلاف مع واشنطن حول التسوية النهائية
وفقًا للتصريحات الرسمية، فإنه لا توجد خطة واضحة يتحدث عنها المسئولون الإسرائيليون بوضوح، فمن ناحية، قال وزير الدفاع يوآف جالانت للجنة الخارجية والأمن فى الكنيست: «بعد الحرب ستأتى مرحلة تشكيل نظام أمنى جديد فى قطاع غزة، وخلق واقع أمنى جديد للمواطنين الإسرائيليين وسكان الغلاف»، لكنه لم يشرح كيف يمكن تحقيق ذلك.
الارتباك الحكومى ظهر بشكل أكثر وضوحًا عندما نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية تصريحات عن نية إسرائيل نقل مسئولية سلطة القطاع بعد الحرب إلى السلطة الفلسطينية، فيما خرج من مكتب رئيس الحكومة نفى قاطع لذلك، ويقول إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حدد هدف الحرب بأنه تصفية «حماس»، وأن «كل الأحاديث عن قرارات لتسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية أو أى جهة أخرى هى أكاذيب».
وبسهولة يمكن فهم أن حكومة نتنياهو المتطرفة هى التى تعارض هذا القرار، وقد ظهر هذا النفى تجنبًا لبدء خلافات فى الحكومة، ولو بشكل مؤقت.
الوزراء من اليمين المتطرف لا يتحدثون عن هذا الأمر بشكل علنى، ولكن فى جلسة من جلسات مجلس الوزراء الأمنى المصغر طلب إيتمار بن غفير، وزير الأمن الوطنى، الاحتفاظ بالأرض حتى بعد انتهاء القتال، فيما اقترح أحد أعضاء الكنيست من الجناح المتطرف فى الائتلاف الحاكم استخدام معنى «المدينة النائية»، أى التى يتم تدميرها وتتحول إلى أنقاض ولا تبنى مرة أخرى. فى المقابل، وفى الأجنحة الأكثر اعتدالًا فى اليمين الإسرائيلى، فإن هناك سياسيين تحدثوا عن إمكانية «معاقبة الغزيين»، حتى فى اليوم التالى للقتال، وأن يحدث تغيير بشكل معين لحدود القطاع لصالح إسرائيل.
ووفقًا للتقارير العبرية، فإن قطاع غزة الذى تريده إسرائيل بعد الحرب هو مكان بدون تسليح قوى أو تنظيمات كبيرة، أى أن وجود بعض التنظيمات الصغيرة التى قد تقوم بعمليات نوعية أمر سيعد مقبولًا.
ولكن فى الوقت نفسه، فإن إسرائيل تريد أن تضمن لنفسها حرية عمل فى قطاع غزة، كما يحدث فى الضفة، مع القدرة على الدخول وتنفيذ المهام والخروج فى أى وقت.
ووفقًا لذلك، ستعمل إسرائيل على إنشاء مناطق أمنية فى هوامش القطاع الحدودية، يقتصر دخول الفلسطينيين إليها على أعمال زراعة الأرض، لكنهم لن يتمكنوا من المكوث هناك فترة طويلة، كما أنه، وبكل تأكيد، لن يُسمح لهم بحمل السلاح فيها، أو إقامة نقاط مراقبة.
ولكى يتحقق ذلك، يجب أن يكون الوضع مستقرًا فى القطاع، وهذا يتطلب من «دول عربية»، وفقًا لرغبة إسرائيل، أن تضخ المال من أجل تحقيق الاستقرار وتحسين الوضع الإنسانى.
وفى المرحلة الأولى من المخطط الإسرائيلى، سيواصل جيش الاحتلال وجهاز الأمن الداخلى «الشاباك» فرض السيطرة الأمنية على القطاع، لكن المسئولين الإسرائيليين يقولون إنهم لا يرغبون مطلقًا فى استمرار السيطرة على القطاع، مع التطلع إلى الخروج منه فى أسرع وقت، بعد ضمان الهدوء وعدم إطلاق صواريخ مجددًا على مستوطنات غلاف غزة.
ولتحقيق ذلك، ستكون هناك مرحلة أو مرحلتان قبل التسوية حتى تفرض السلطة الفلسطينية سلطتها المدنية على القطاع، لكن سيكون للجيش الإسرائيلى وجهاز «الشاباك» حرية التصرف الاستخباراتى والوقائى، كما هو الحال فى مناطق «ب» فى الضفة الغربية.
ويقترح الأمريكيون نشر قوة إنفاذ دولية غير أمريكية فى القطاع فى تلك المرحلة.
وفى المرحلة الثانية، أى مرحلة تهيئة القطاع، فإن إسرائيل تريد أن يكون قطاع غزة بأكمله منزوع السلاح وخاليًا من الأنفاق والأسلحة، بل والقدرة على إنتاج السلاح والصواريخ، وكل ما سيدخل إليه يجب أن يخضع للرقابة التامة من إسرائيل.
وحسب المطالب الأمريكية، فستتمثل المرحلة الأخيرة فى مفاوضات سياسية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وربما يتم الأمر فى إطار مؤتمر دولى، وتحت رعاية دولية.
ووفقًا للإدارة الأمريكية، فإن الهدف سيكون التوصل إلى حل «دولتين لشعبين»، مع ممر آمن يربط بين قطاع غزة والضفة الغربية، ولكن على أى حال ليس من المتوقع أن تدفع الحكومة الإسرائيلية الحالية قدمًا بمفاوضات حقيقية تسفر عن النتائج التى يرغب فيها الأمريكيون.
الإدارة المحلية أو إعادة الاحتلال.. تردد فى تل أبيب حول القرار المناسب
يتردد المسئولون فى إسرائيل بشكل عام حول الاختيار بين ٤ سيناريوهات، هى تأجيل البحث عن حل نهائى إلى ما بعد انتهاء الحرب نفسها، والتفكير فى البحث عن إدارة محلية للقطاع، أو تسليمه للسلطة الفلسطينية، وأخيرًا إعادة الاحتلال بشكل كامل.
السيناريو الأول يرى أن تقرر إسرائيل، بناءً على المعطيات فى الميدان، وبالتعاون مع الأمريكيين والأمم المتحدة، شكل التسوية الأولية لمسألة السيطرة على القطاع، وكما يبدو، فإن هذا هو السيناريو القائم حاليًا، وأصحابه يرون أن الأولوية الآن هى لحسم الحرب، ثم تأتى خطة اليوم التالى فى اليوم التالى، وتتغير وفقًا للوضع الميدانى.
ويرى المؤيدون لهذا السيناريو أنه يجب على المستويين السياسى والأمنى فى إسرائيل تركيز جهودهما على النصر التام، وتحقيق أهداف الحرب بصورة كاملة، حسبما حددتها الحكومة، وهى إزالة وجود «حماس» تمامًا من قطاع غزة، والقضاء على قدراتها العسكرية والإدارية والتنظيمية، وقتل جميع زعمائها «من دون أن يكون للأمر علاقة بالبلد الذى يقيمون به»، إلى جانب قتل كل من شارك فى تخطيط وتنفيذ الهجمة يوم ٧ أكتوبر، دون إزعاج الجيش الإسرائيلى الآن فى التفكير فى اليوم التالى للحرب.
أما السيناريو الثانى لدى إسرائيل، فيتضمن تسليم حكم قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية، وهو أمر يتعارض كليًا مع توجهات نتنياهو، الذى تبنى، منذ عودته إلى الحكم فى سنة ٢٠٠٩، سياسة مزدوجة، تتمثل فى التشهير بالرئيس الفلسطينى محمود عباس، وفى الوقت ذاته تشجيع التنسيق الأمنى بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية فى رام الله.
وأطلق نتنياهو على «عباس» لقب «مصدر الإرهاب»، وانتشر هذا اللقب، ونجح فى التغلغل حتى لدى ناخبى تيارات اليسار والوسط، وكذلك عبارة «لا يوجد من نتحاور معه فى الطرف الفلسطينى»، وتم تثبيت هذا المفهوم فى الرأى العام الإسرائيلى.
وبسبب ذلك، تمت تقوية «حماس» فى قطاع غزة، وأصبحت السلطة فى الضفة الغربية آيلة إلى الانهيار.
ولكن الآن فى إسرائيل هناك من يقترح أن تتم تقوية السلطة والاعتماد عليها فى حكم قطاع غزة مجددًا، وكتب ميخائيل ميلشتاين فى صحيفة «معاريف» قائلًا: «السلطة غائبة عن غزة منذ ٢٠ عامًا تقريبًا، وهى فترة نما فيها جيل شباب، وزرعت حماس فى وعيه أن أبومازن هو «أحد الأعداء الأكثر حدةً للفلسطينيين، والمسئول عن ضائقة سكان غزة». وأضاف: «أكثر من ذلك، لا يوجد لدى السلطة قواعد حقيقية فى غزة، وحركة فتح منقسمة على نفسها بين معسكرات متنافسة، كما أن سلطة أبومازن تواجه صعوبات فى السيطرة على الضفة، لذلك، فإن السيطرة على ٢.٢ مليون فلسطينى فى منطقة ستكون مدمرة كليًا هى أمر يفوق قدرات عباس، والأهم من هذا كله- لا يبدو أن السلطة، أصلًا، معنية الآن بالقيام بهذه المهمة الصعبة».
فيما يتعلق بالسيناريو الثالث لليوم التالى للحرب بالحديث عن إقامة إدارة محلية تستند إلى قوة من داخل القطاع، وغير مرتبطة بـ«حماس»، مثل رجال الأعمال والأكاديميين البارزين، والمسئولين من «فتح»، وهذا كله بتدخُّل عميق من إسرائيل وأمريكا والدول العربية، باستثناء قطر، التى ترى تل أبيب أن تأثيرها كان سلبيًا على الساحة الفلسطينية.
وينبغى أن ترتكز الوظيفة المستقبلية لهذا الكيان على تقديم الخدمات للجمهور، وإعادة إعمار القطاع، والحفاظ على النظام العام، ومن المفضل أن تكون علاقتها وطيدة بالسلطة، ويكون هناك نوع من أنواع المسئولية الرمزية لرام الله على الواقع فى غزة.
والمقترح أنه فى المرحلة الأولى من المرجح أن يواجه النظام العام للسلطة الجديدة تحديات كبيرة، وعلى رأسها عدم ثقة الجمهور الواسع، ويمكن أن يواجه أيضًا مقاومة فاعلة من بقايا «حماس» وبقية التنظيمات فى القطاع. لكن، إذا حصل على دعم مالى وسياسى خارجى، فيمكن أن يستقر بعد مضى وقت، ويسمح للسلطة الفلسطينية بالتمركز كعنوان واحد للمنطقتين الفلسطينيتين.
وبالنسبة لإسرائيل، فهذا هو البديل «الأقل سوءًا»، رغم أن تنفيذه سيفرض عليها تقديم مساهمات وتنازلات، منها أنه سيكون على تل أبيب التدخل لضمان استمرار المساعدات الخارجية إلى تلك الإدارة، مع ضمان التزود بالمياه والكهرباء وعبور البضائع والأشخاص.
أما السيناريو الرابع والأخير، فهو أن تعيد إسرائيل احتلال قطاع غزة بالكامل، وهو السيناريو المرفوض، سواء داخل إسرائيل أو فى الولايات المتحدة.