حرب إقليمية ووقف التطبيع مع إسرائيل
إذا استمرت إسرائيل في نهجها الدموي في قطاع غزة، وواصلت القتل والتهديم والتشريد لشعب هذا القطاع الأعزل من كل قدرة على الدفاع عن نفسه، ولم تمتنع عن قتل الأطفال الأبرياء والنساء والشيوخ الضعفاء، يمكننا أن نتخيل بسهولة السيناريو الأسوأ، لأن حربًا ستندلع، تجعل من كل ما جرى في غزة من أهوال الصراع اليومي المروِّعة، وكأنها مُجرد بداية.. هكذا أكد مسئول الشئون الإنسانية في الأمم المتحدة، مارتن جريفيث.
ومنذ اشتعال الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، تبادل المسئولون في مصر وإسرائيل تصريحات تكشف الخلاف الحاد حول التعامل مع هذا الصراع، إذ دعا المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي سكان غزة لترك القطاع والتحرك نحو الجنوب، باتجاه الحدود المصرية، واقترح القيادي في حزب (إسرائيل بيتنا)، داني أيالون، الحزب المشارك في حكومة الحرب التي شكلها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بالتعاون مع وزير الدفاع السابق بيني جانتس، نقل سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء.. إلا أن الرئيس عبدالفتاح السيسي، أكد في كل المؤتمرات التي تمت بالقاهرة، مع رؤساء غربيين ووزراء خارجية ومسئولين، وحتى مدير المخابرات الأمريكية، رفض الإشارات الإسرائيلية لنقل سكان غزة إلى سيناء، وتهجيرهم قسريًا، معتبرًا أن الهجمات على غزة مقصود بها تنفيذ هذا الاقتراح، واقترح الرئيس أنه (إذا كان من الضروري نقل مواطني القطاع خارجه حتى انتهاء العمليات العسكرية، فيمكن لإسرائيل نقلهم إلى صحراء النقب).. هذه واحدة، وهي الأهم، منعًا لتصفية القضية الفلسطينية وحفاظًا على الأمن القومي المصري، (جميع الأعمال المنافية للقانون الدولى، للتهجير القسرى غير مقبولة، ولا يمكن تبريرها بالدفاع عن النفس، ولا بأية دعاوى أخرى، وينبغى وقفها على الفور).
والثانية، فإن تل بيب تعرقل دخول شاحنات المساعدات الغذائية والطبية، بالقدر الكافي لإنقاذ الوضع المتدهور في القطاع، من الجانب المصري في معبر رفح إلى داخل غزة، بعد تعرض الجانب الفلسطيني من المعبر لقصف إسرائيلي أربع مرات؛ ما يعني وجود خطر على مرافقي الشاحنات.. وردًا على ذلك، رفضت مصر خروج حاملي الجنسيات الأجنبية في داخل غزة من معبر رفح إلى مصر؛ لتتسنى لهم العودة إلى بلادهم، إلا بعد السماح بدخول المساعدات، وأكد مصدر سيادي مصري قوله إن (التصعيد سيقابل بتصعيد)، حيث شدد الرئيس السيسى على رفض سياسات العقاب الجماعى لأهالى غزة، (لا لسياسة العقاب الجماعى واستهداف المدنيين).. أما الثالثة، فقد تمثَّلت فى رفض أى شروط قد يضعها الاحتلال لوقف إطلاق النار، وقال الرئيس (يجب الوقف الفورى والمستدام لإطلاق النار فى القطاع.. بلا قيد أو شرط).
صحيح، لم تكن العلاقات بين مصر وإسرائيل حميمية في يوم من الأيام، بل هي علاقة عادية فقط.. لكن هذه العلاقات العادية تأثرت بشكل كبير هذه الأيام، بسبب موقف مصر الداعم للفلسطينيين، والرافض للنوايا الإسرائيلية بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، هذا الموقف النابع من التفاف الشعب المصري حول قيادته السياسية، ومن عدم استجابة الشعب الفلسطيني لمخطط تهجيره.، ومع أنه من (أسوأ الفروض) التي يمكن أن تحدث بين القاهرة وتل أبيب، سحب السفراء وقطع العلاقات، إلا أن هذا مُستبعد حاليًا؛ لأن الجانبين على يقين بأن بقاء الوضع الدبلوماسي مهم للتواصل والتنسيق في محاولة لحل الأمور.. لكن، ماذا لو طالت الأزمة؟.
(مصر هي أقرب دولة عربية للقضية؛ بحكم التاريخ، وكون حدودها مُهددة من الأحداث المشتعلة، إضافة لظهور دعوات إسرائيلية بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء)، كما يقول المحلل السياسي الفلسطيني، نزار جبر.. وفي تقديره، فإنه رغم هذا (التوتر الواضح في العلن، إلا أن الأمور لم تصل إلى حد قطع العلاقات؛ فإبقاء التمثيل الدبلوماسي يصب في مصلحة الفلسطينيين).. وهو لا يستبعد أن (تشتعل أزمة إقليمية كبيرة، تلقي بظلالها على جميع الأطراف)، إذا طالت الأزمة.. فإننا (لا نستطيع القول إن مصر في هذا الوقت دولة تسعى للوساطة وحسب، لكنها دولة معنية بالأزمة بسبب دعوات التهجير).
وكان الرئيس السيسي قد من حذر من استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، وأكد أن هذا لن يؤدي إلى القضاء على حماس أو فصائل المقاومة، لكنه سيقود لسقوط الضحايا من المدنيين.. وأكد الرئيس على أن مصر حذرت من السياسات الأحادية، وتُحذر من التخاذل عن وقف الحرب، ما ينذر بتوسيع المواجهات العسكرية في المنطقة، بسبب طول أمد الاعتداءات وقسوتها، وهذا كفيل بتغيير المعادلة وحساباتها بين ليلة وضحاها.. وبعث الرئيس برسالة إلى القوى الدولية الفاعلة، بأن مصر والعرب سعوا في مسار السلام لعقود وقدموا المبادرات الشجاعة للسلام، وتأتي مسئولية العالم بوقف نزيف دم الفلسطينيين وإعطاء الحق لأصحابه، لتحقيق الأمن لشعوب المنطقة وتنفيذ الحل العادل للقضية الفلسطينية، بما يليق بالإنسانية وقيم العدل واحترام جميع الحقوق، وليس بعضها.. كما قال إن المواطن المصري يجب أن يشعر بالأمان، وإن جيش بلاده قادر على حماية الوطن، داعيًا في نفس السياق، إلى احترام سيادة مصر وموقفها في المنطقة.
ولا شك، فقد أثار القتل والتدمير الإسرائيلي المتواصل لقطاع غزة وأهله تساؤلات بشأن مدى صمود اتفاقات التطبيع التي وقعها عدد من الدول العربية مع تل أبيب.. ومن المرجح أن يكون للحرب تأثير كبير على مسار التطبيع بين هذه الدول وإسرائيل، خصوصًا مع المملكة العربية السعودية، لا سيما وأن (منظمة التعاون الإسلامي) التي تترأسها الرياض حاليًا، جددت إدانتها لما وصفته بـ(العدوان العسكري الإسرائيلي الذي أدى إلى سقوط عشرات آلاف الشهداء والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني).. قد تبلغ تداعيات هذه الحرب المستمرة حد انسحاب بعض الدول من اتفاقات التطبيع، أو تجميدها، والأمر يتوقف على المنحى التصاعدي الذي يمكن أن تتخذه، خصوصًا في ظل خوض تل أبيب هجومًا بريًا عنيفًا على قطاع غزة وتهجير مئات الآلاف من سكانه.
الموقف الأهم مرتبط بالسعودية، اعتبارًا لمكانتها في العالمين العربي والإسلامي، وما لذلك من أثر على التركيبة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط.. ورغم نقل وسائل إعلام سعودية عن مسئول أمريكي قوله، إن التطورات الأخيرة لن تُخرِج مفاوضات التطبيع عن مسارها، إلا أنه اعترف بأن العملية أمامها طريق طويل.. وعقب اندلاع المواجهات، أعلنت وزارة الخارجية السعودية عن (تحذيراتها المتكررة من مخاطر انفجار الأوضاع، نتيجة استمرار الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدساته).. وفي الوقت الذي قدَّر فيه الباحث السعودي، عزيز الغشيان، أن موقف الرياض يهدف إلى دحض الشكوك بأن المملكة ستُولي التطبيع أولوية على حساب دعم حقوق الفلسطينيين، وضع نتنياهو عقبة أخرى أمام المباحثات، لأنه قال إننا في حرب الآن، ولا أتوقع أن يحصل التطبيع على خلفية حرب.
وأشار مدير الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية، يوست هلتيرمان، إلى أنه في حال مضت إسرائيل في التصعيد، ستكون الدول العربية مُلزمة باتخاذ مواقف أكثر تصلبًا، تماهيًا مع اتجاهات الرأي العام فيها، (إذا حصل كل ذلك، أتوقع سيناريو مشابهًا للسلام البارد بين إسرائيل والأردن وإسرائيل ومصر.. أن نشهد فتورًا في العلاقة بين الإمارات وإسرائيل، وربما إرجاء ـ على أقل تقدير ـ لأي صفقة بين إسرائيل والسعودية).
بلا شك، فإن مسار التطبيع مهدد بالجمود وسط تصاعد الأحداث الجارية، رغم كل الضغوط الأمريكية. لأن عددًا من الدول العربية، سواء التي طبَّعت أو كانت في طريقها إلى ذلك، لم تعد قادرة على إيجاد أي مبررات، مهما كانت هزيلة.. إن إصرارها على موقفها سيواصل استنزاف رصيدها الشعبي وسيضر بسمعتها في المحيط.. يحدث ذلك في المغرب أيضًا، لأن الرباط، التي استأنفت علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، ستجد نفسها في موقف محرج، نظرًا لوضعها الاعتباري، وصفة ملكها، محمد السادس، كرئيس للجنة القدس، ثم الموقف الشعبي القوي المُعارض للتطبيع، والذي عكسته (مظاهرات حاشدة خرجت للتعبير عن دعمها للفلسطينيين).. وقد دعا الأمير هشام، ابن عم الملك محمد السادس، إلى إعادة التفكير في نهج سياسي جديد، لأنه يرى أن (إسرائيل هي المسئولة عن هذه الأحداث وما يترتب عليها.. والتحدي الآن، هو وقف التصعيد ثم الرجوع إلى مقاربة سياسية بدون انبطاح).. وتساءل (كيف سيحدث هذا وإسرائيل تحت حكم يمين متطرف، وواشنطن صمَّاء، وأوروبا رهينة التبعية، علاوة على استحالة مبدأ حل الدولتين).
وفي العموم، ستدخل اتفاقات أبراهام حاليًا غرفة الإنعاش لفترة قد تطول.. كما أن واشنطن فقدت، وربما إلى الأبد، أي وجاهة سياسية أو أخلاقية، تجعلها قادرة على تقديم نفسها وسيطًا قادرًا على الدفع بأي تسوية، تضمن الحد الأدنى من شروط التسوية المتوازنة أو العادلة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.