الروائية ريم بسيونى: لا أضع اعتبارًا للحدود بين الحقيقى والمتخيل.. والرواية لا تصلح مصدرًا للتاريخ
على مدار سنوات عملت الروائية والأكاديمية المصرية ريم بسيونى بدأب بالغ على رسم ملامح مشروعها الروائى، الذى شهد انطلاقته الأوضح من اهتمام خاص بالسرد التاريخى فى عدد من الأعمال الروائية المتتالية هى «أولاد الناس- ثلاثية المماليك»، و«القطائع- ثلاثية ابن طولون»، و«الحلوانى- ثلاثية الفاطميين»، وهى أعمال كانت محل اهتمام القراء والنقاد، وتُوِجت بعدد من الجوائز منها جائزة نجيب محفوظ للأدب من المجلس الأعلى للثقافة عن «ثلاثية المماليك»، وجائزة الدولة للتفوق عن مجمل الأعمال الأدبية.
فى هذا العام، تجرى بسيونى زيارة أخرى للتاريخ ولكن بأعين صوفية عبر كتاب «البحث عن السعادة»، ثم رواية «ماريو وأبوالعباس». ففى «البحث عن السعادة» تقدم دراسة عن السعادة والرضا فى التجربة الصوفية بدءًا من العصر الأموى وحتى العصر المملوكى.
أما فى رواية «ماريو وأبوالعباس» فتسرد سيرة المتصوف «أبوالعباس المرسى» والمحطات التى مرّ بها سواء تلك التى تتعلق بتنقلاته ما بين مختلف الأمكنة أو تلك التى تخص رحلته الروحية نحو القرب الصوفى من الله، وكذلك سيرة المصمم المعمارى الإيطالى ماريو روسى الذى بنى مسجدًا لأبى العباس فى الإسكندرية. يبدأ السرد من الوقت الراهن وبحديث الكاتبة عن ومضة أضاءت اهتمامها بأبى العباس وبالمعمارى الإيطالى معًا، ثم يراوح السرد فى سلاسة ما بين السيرتين ليقدم خطين لرحلتين اختلفتا فى التفاصيل وتشابهتا فى الإطار العام ممثلًا فى رحلة البحث عن معنى ما يُشبع الرغبة فى الوصول.
وما بين هذا وذاك، تطوف الرواية بعدد من أقطاب الصوفية، مثل البوصيرى وابن عطاء السكندرى، لتُشهِد القراء على عراقيل شهدتها رحلتهم قبل أن يتعلقوا بحبال الصوفية. تكشف الرواية عبر سرد ممتع الكثير عن أفكار الصوفية التى طالها الكثير من التشويه، وتركز بصورة خاصة على دحض الأكاذيب التى أُلصقت بها وإبراز عمق اعتقاداتها بوضعها فى مقارنة مع فكر آخر متشدد يروم تحقيق مصالحه الدنيوية.
فى هذا الحوار، نناقش مع الروائية ريم بسيونى روايتها الأحدث «ماريو وأبوالعباس»، من حيث أساليبها السردية ومقاصدها الفكرية وعلاقتها بكتاب «البحث عن السعادة»، متطرقين للحديث عن تصورها لأسس الكتابة الروائية عن التاريخ وإشكالياتها.
■ يدور السرد فى رواية «ماريو وأبوالعباس» فى ثلاثة خيوط تُعبر عن ثلاثة عصور؛ عصر المتصوف أبى العباس المرسى، وعصر المصمم المعمارى الإيطالى ماريو روسى، وعصر الكاتبة الراهن.. ما الهدف الذى رمتِ تحقيقه من خلال عقد الروابط ما بين الخيوط الثلاثة؟
- وجود ثلاثة عصور فى الرواية مهم جدًا، لأن من يهتم بقراءة التاريخ سيعى تمامًا أن التاريخ يُعيد نفسه، إذ تتكرر التحديات والمشكلات نفسها تقريبًا. فى الرواية نجد أن أبا العباس يتعرض لتحديات متمثلة فى الوجود بفترة قلقة شهدت الحرب الصليبية التى تأثر بها بشدة، وفى المقابل فإن المعمارى ماريو عاصر الحرب العالمية الثانية وأثّرت فيه أيضًا. ومن ثم، فإن الربط بين أكثر من عصر يلفت الانتباه إلى الأحداث التى تُعاد والتحديات التى تتكرر.
■ عمدت إلى السرد الدائرى بالانتهاء من حيث بدأت الرواية وذلك بتقسيم الفصول إلى «سفر أول، ثان،..» ثم «الوصول الأول، الثانى، الثالث».. فما الذى أردت تحقيقه من خلال هذا التقسيم وتلك الدائرية؟
- يُعد هذا تعبيرًا بالأساس عن طبيعة الحياة ذاتها باعتبارها بين قطبى السفر والوصول، فالحياة رحلة يحاول الإنسان فيها أن يصل إلى شىء معين.
بالنسبة إلى الصوفيين ومنهم أبوالعباس المرسى تتمثل الرحلة فى محاولة الوصول إلى الصفاء النفسى والقرب من الله، ومن ثم فإن سفرهم غرضه هذا الوصول. على الجانب الآخر، فإن المعمارى ماريو يخوض أيضًا رحلة ولكنها للبحث عن ذاته، التى ما إن يصل إليها يحقق سعادته، وبالتالى فإن رحلة سفره تقوده أيضًا إلى وصول كان يريده.
■ تثير الكتابة التاريخية دائمًا السؤال حول حدود التخييل والموضوعية التاريخية.. إلى أى مدى يمكن اعتبار رواية «ماريو وأبوالعباس» مصدرًا جديدًا يمكن الاعتماد عليه لمعرفة سيرتى المتصوف أبى العباس والمعمارى ماريو روسى؟ وما حجم المتخيل بالعمل؟
- الروائى الذى يضطلع بمهمة كتابة رواية تاريخية يتعين عليه الالتزام بالأمانة العلمية أى عدم تشويه الشخصيات وتغيير حقيقتها، فعلى سبيل المثال، إن ثبت أن شخصية ما كانت خيّرة لا يجوز للروائى أن يرسمها بصورة معاكسة لحقيقتها تلك، أو أن ينسب إنجازًا يخص شخصية ما إلى أخرى. هذه الأمانة العلمية لا تعنى أن الرواية تصلح لأن تكون مصدرًا للتاريخ، فهذا لا يصح، ولكن يمكن أن تساعد القارئ للانطلاق نحو البحث فى التاريخ.
من جهة أخرى، أنا لا أفكر فى الحدود بين ما هو حقيقى وخيالى أثناء كتابتى العمل الروائى، فكل ما أكتبه هو حقيقى بالنسبة إلى، ولو شعرت بأن أحداثًا أو شخصيات ليست حقيقية بشكل كامل لن أستطيع أن أكمل الكتابة عنها، وبالتالى فأنا لا أضع اعتبارًا للحدود بين الحقيقى والمتخيل.
■ ما المصادر التى اعتمدتِ فى سرد الحقائق التاريخية عن الشخصيتين الرئيسيتين والشخصيات الأخرى المعاصرة لهما؟
- عادة ما أعتمد على الكثير من المصادر فى كتابة الرواية، ربما لا تقل المصادر عن ٢٠٠ كتاب أى ما يعادل مصادر رسالة دكتوراه، وذلك بهدف تحقيق الأمانة العلمية فى الكتابة عن العصر موضوع الرواية.
فى رواية «ماريو وأبوالعباس» اعتمدت على الكثير من المصادر الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. ففيما يخص المعمارى ماريو قرأت بعض الرسائل العلمية عنه، واطلعت على الأرشيف الخاص به، فضلًا عن مقابلات أجريتها مع عائلته وبعض المقربين منه. أما «أبوالعباس» فكتبت عنه بالاعتماد على الكتابات التى ظهرت أثناء الفترة التاريخية التى عاصرها، التى كُتبت بعد وفاته بفترة قصيرة.
■ الاهتمام بالمكان وعناصره يبرز بشكل واضح فى هذه الرواية.. ما الأهمية التى يمثلها المكان فى العمل الروائى من وجهة نظرك؟
- المكان مهم لاستدعاء أرواح من عاش به، من خلال المكان نفهم أكثر عن البشر وتكتسب الأحداث حيويتها، لذلك فقد قمت بالكثير من الرحلات لأماكن مختلفة لأشعر بروح الأماكن وأتمكن من الكتابة عنها بصدق، فذهبت إلى الإسكندرية فى أكثر من رحلة، وزرت روما التى منها جاء المعمارى ماريو، وكذلك قمت بزيارة إلى تونس التى مرّ بها أبوالحسن الشاذلى.
■ ما الذى يحكم اختيارك لحقبة تاريخية معينة للكتابة عنها بعمل روائى؟
- لا بد أن تكون الحقبة التى أكتب عنها محل اهتمامى، وأن أشعر بأنها لم تأخذ ما تستحق من الاهتمام والمعرفة، كما لا بد أن تكون مُعبّرة عن الهوية المصرية أو نتعلم من معرفتنا عنها ما هو جديد. بناء على ذلك جاء اختيارى للدولة الفاطمية فى رواية «الحلوانى»، ولحقبة ابن طولون فى «القطائع»، وكذلك للمماليك فى «أولاد الناس».
■ وهل استعادتك لمحات محددة من التاريخ تهدف إلى رؤية ما لقضايا الراهن وإشكالياته؟
- لا أحب ربط التاريخ بالواقع، فهذا يعنى أن يُظلم التاريخ الذى يحتاج إلى قراءة صادقة دون أى إسقاطات. تفضيلى الخاص أن أنغمس فى تفاصيل العصر الذى أكتب عنه بون محاولة لربطه بالواقع، أما إذا استشف القارئ صلات ما بين ذلك العصر الذى كتبت عنه والواقع، فهذه قراءته الخاصة.
■ هل يمكن اعتبار كتابك «البحث عن السعادة» دراسة تمهيدية لهذا العمل الروائى؟
- بالفعل كتاب «البحث عن السعادة» يُكمل رواية «ماريو وأبوالعباس» والعكس. ساعدنى الكتاب باعتباره بحثًا علميًا عن التصوف فى فهم الفكر الصوفى والخطوات التى يمر بها المتصوف فى رحلته نحو الوصول، وقد كتبت بعض أفكار الرواية أثناء كتابتى الكتاب. أتمنى أن يقرأ الكتاب من قرأ الرواية والعكس، لأنهما متكاملان.
■ تهتم الرواية ومن قبلها كتاب «البحث عن السعادة» بإعادة سرد قصة الصوفية والصوفيين بعيدًا عما يُلصق بهم من مبالغات وأكاذيب.. فهل أردت أن تكون أعمالك بصورة ما دفاعًا عن الصوفية وتبسيطًا لما هو مجهول عنها؟
- نعم، فالتصوف يواجه مشكلتين؛ الأولى تتمثل فى بعض الممارسات الخاطئة التى يدعى ممارسوها انتماءهم إلى الصوفية، والثانية تتعلق بحملات تشويه الصوفية الممنهجة ما جعل الناس ينفرون من التصوف بسبب هذا وذاك.
رأيت أن دورى بصفتى باحثة قبل أن أكون روائية أن أوضح حقيقية هذا الفكر من الناحية العلمية والتاريخية، ومراحل تطور الفكر الصوفى وحقيقية أفكارهم وتصوراتهم انطلاقًا من الكتابات الرئيسية فى الصوفية مثل «الفتوحات المكية» لابن عربى، و«لطائف المنن» لابن عطاء الله السكندرى.
■ هل تولّد شغفك بالفكر الصوفى فى خضم اهتمامك بالتاريخ أم أن الصوفية كانت هى ما تبحثين عنه منذ البداية فى شخصيات تاريخية لم تلق ما تستحقه من اهتمام؟
- منذ أن بدأت كتابة رواية «أولاد الناس» عن عصر المماليك بدأ اهتمامى بالصوفية، لأن المماليك كانوا شديدى الاهتمام بالصوفيين، ولكن لا أعرف حقيقة أيهما قاد إلى الآخر، فالموضوع كما يقول «أبوالعباس المرسى» رحلة وليست وصولًا، وأنا ما زلت فى الرحلة ولم أصل بعد، لكننى أؤمن بأن الصوفية مهمة فى التاريخ الإسلامى وفى الحياة بشكل عام.
■ إلى أى مدى أنتِ راضية عما حققت حتى اليوم فى السرد الروائى التاريخى؟ وما الذى تتطلعين لتحقيقه بأعمالك المقبلة؟
- أنا راضية جدًا عما وصلت إليه حتى الآن فى مسيرتى، لا سيما مع ما حققته من نجاح مع كثير من القراء الذين صاروا أكثر اهتمامًا وشغفًا بمعرفة الحقائق التاريخية، وأرجو أن أظل دائمًا عند حسن ظن القارئ بى، وأن أكتب بإخلاص وأتوقف عن الكتابة وقتما أشعر بأنه لم يعد لدىّ جديد يقال.