مصر والقضية الفلسطينية.. تاريخ من المسئولية (1)
على مدار 75 عامًا، هي تاريخ القضية الفلسطينية، لعبت مصر دورًا كبيرًا، إذ كان لها دورها الفاعل في المساهمة بإنهاء أزمات المنطقة العربية وإعادة الاستقرار لها، مُرتكزة على ما لديها من قوة ومكانة.. نعم، احتلت القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى منذ عام 1948، الاهتمام الأكبر من جميع الزعماء المصريين، خصوصًا بعد الجلاء البريطاني عن مصر، إلا أن كل رئيس، ممن سبقوا في حكم مصر، تعامل معها بطريقة مختلفة، حيث كان جمال عبد الناصر من أكثر الزعماء اهتمامًا بها، واعتبرها جزءًا من الأمن المصري، وليست مجرد قضية فلسطينية، لذا كان ينظر إليها وكأنها جزء من مصر.. وعندما تولى الرئيس أنور السادات، تغيرت الأوضاع قليلًا بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، التي اهتمت بتحقيق السلام مع مصر، وفي نفس الوقت المطالبة بحصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه.. وعندما تولى الرئيس حسني مبارك سار على نفس نهج السادات، والآن، مصر تسعى بشتى الطرق الودية للتفاوض؛ لتهدئة الأوضاع في قطاع غزة، والوصول إلى حلول شاملة وعادلة.. وعبر عدة مقالات تالية، سنتناول أوجه اهتمام صانع القرار السياسي المصري بالقضية الفلسطينية منذ 1948، حتى ما يحدث في غزة الآن، لأن قراءة التاريخ مهمة في توضيح ما يحدث الآن على الأرض.
ولعله من الضروري استعراض الدور والمواقف المصرية من القضية الفلسطينية عبر ثلاثة أرباع القرن، وارتباط مصر بقضية فلسطين، إرتباطُا دائمُا وثابتًا، تُمليه اعتبارات الأمن القومي المصري، وروابط الجغرافيا والتاريخ والدم والقومية مع شعب فلسطين، كما جاء في تقرير الهيئة العامة للاستعلامات.. لذلك لم يكن الموقف المصري من قضية فلسطين، في أي مرحلة، يخضع لحسابات مصالح آنية، ولم يكن أبدًا ورقة لمساومات إقليمية أو دولية.. وعليه، فإن ارتباط مصر العضوي بقضية فلسطين لم يتأثر بتغير النظم والسياسات المصرية.. فقبل ثورة 23 يوليو 1952، كان ما يجرى في فلسطين موضع اهتمام الحركة الوطنية المصرية، وكانت مصر طرفًا أساسيًا في الأحداث التي سبقت حرب فلسطين عام 1948، ثم في الحرب ذاتها، التي كان الجيش المصري في مقدمة الجيوش العربية التي شاركت فيها، ثم كانت الهزيمة في فلسطين أحد أسباب تفجر ثورة 23 يوليو 1952، بقيادة الضباط الأحرار الذين استفزتهم الهزيمة العسكرية هناك.
في 28 مايو 1946، اجتمع ملوك ورؤساء وممثلو سبع دول عربية في "أنشاص" بمصر، للتباحث في قضية فلسطين ومواجهة هجرة اليهود للأراضي الفلسطينية.. وفقًا لميثاق جامعة الدول العربية، الذى ينص على وجوب الدفاع عن الدول العربية فى حال وقوع اعتداء عليها، قرر المجتمعون التمسك بالاستقلال لفلسطين، التى كانت قضيتها هى القضية المحورية فى جميع المؤتمرات.. كما أعلن الملك فاروق عن مشاركة الجيش المصري في حرب 1948، بعد أن أدرك أن الرأي العام المصري والعربي لدية رغبة في الإسهام في عملية إنقاذ فلسطين، ولمواجهة خصومه السياسيين في ذلك الحين، وهما حزب مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين.
وضع جمال عبد الناصر القضية الفلسطينية في مقدمة اهتماماته، لذا كانت دعوته لعقد "مؤتمر الخرطوم"، الذي أعلن فيه أنه "لا اعتراف، لا صلح، لا تفاوض" مع إسرائيل، والذي سمى بمؤتمر "اللاءات الثلاث".. كما كان لمصر، بقيادة عبد الناصر، دور كبير في توحيد الصف الفلسطيني، من خلال اقتراح إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، كما ساندت مصر، في القمة العربية الثانية التي عقدت في الإسكندرية يوم الخامس من سبتمبر 1964، قرار المنظمة بإنشاء جيش للتحرير الفلسطيني.. وفي عام 1969، أشرف عبد الناصر على توقيع (اتفاقية القاهرة)، تدعيمًا للثورة الفلسطينية، واستمر دفاعه عن القضية إلى أن تُوفى عام 1970.
كانت نظرة الرئيس الراحل أنور السادات ثاقبة في تقدير العلاقات العربية مع إسرائيل، لذا أطلق عليه المثقفون المصريون "بطل الحرب والسلام"، بعدما خاضت مصر حرب أكتوبر، والتي توجت بالنصر، فرفع شعار "النصر والسلام".. ولا يمكن أن نتجاهل مطالبات السادات بحقوق الشعب الفلسطيني، خلال خطابة الشهير في الكنيست الإسرائيلي، مطالبًا بالعودة إلى حدود ما قبل 1967.. وخلال مؤتمر القمة العربي السابع، الذي عقد 29 نوفمبر 1973 في الجزائر، أقر المؤتمر شرطين للسلام مع إسرائيل، هما انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمتها القدس، وفي أكتوبر 1975، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم (3375)، بدعوة منظمة التحرير الفلسطينية للاشتراك في جميع المؤتمرات المتعلقة بالشرق الأوسط، بناءً على طلب تقدمت به مصر وقتها، نتيجة إعلان مصر والدول العربية، أكتوبر 1974، مناصرة حق الشعب الفلسطيني في إقامة السلطة الوطنية المستقلة، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية؛ وكان آخر جهود السادات، هو ما بادر به بدعوة الفلسطينيين والإسرائيليين للاعتراف المتبادل.
خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، التي امتدت قرابة الثلاثين عامًا، شهدت القضية الفسيطينية تطورات كثيرة وحادة.. ونتيجة ذلك، تطورت مواقف وأدوار مصر، لتحقيق الاستقرار في هذه المنطقة الملتهبة من حدود مصر الشرقية.. وكانت البداية مع سحب السفير المصري من إسرائيل بعد وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا 1982.. وفي عام 1989، طرح مبارك خطته للسلام، التي تضمنت ضرورة حل القضية الفلسطينية طبقًا لقرار مجلس الأمن، ومبدأ الأرض مقابل السلام، مع وقف الاستيطان الإسرائيلي.. وفي سبتمبر عام 1993، شارك مبارك في توقيع اتفاق أوسلو، الخاص بحق الفلسطينيين في الحكم الذاتي.. وفي 2003، أيدت مصر وثيقة "جنيف" بين الإسرائيليين والفلسطينيين، باعتبارها نموذج سلام لتهدئة الأوضاع في المنطقة.. وفي عام 2010، عندما تجدد القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، رفضت القيادة المصرية فتح معبر رفح، مؤكدة أنه لن يسمح بتحقيق المصالحة على حساب البلاد.. واستمر عطاء مصر حتى مجيء الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي وعد الشعب الفلسطيني بالوقوف بجانبه، بعدما تعرضت غزة للقصف من إسرائيل، وهو الوعد الذي يُصدِّقه العمل الآن.
كانت أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011، سببًا مهمًا لطرح إعادة هيكلة السياسة الخارجية المصرية على بساط البحث، بهدف استعادة دور مصر الإقليمى والعربى، والتعامل مع تهديدات الأمن القومى المصرى.. وفى إطار هذا السياق، كانت العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية، والعلاقات المصرية ـ الفلسطينية تشغل حيزًا مهمًا.. وعلى إثر ما حدث في ذلك الوقت، قامت المظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية، وتم اقتحام المبنى الملحق بها وإنزال العلم الإسرائيلى، وقد ظهر تأثير هذه الأحداث فى إعادة ترتيب بعض الأوراق، حيث تقدمت إسرائيل، وعلى لسان وزير دفاعها باعتذار رسمى عن مقتل خمسة جنود مصريين فى 18 أغسطس عام 2011، وبذلت مصر جهودًا كبيرة فى إتمام المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية، بين حماس وفتح، وفتحت معبر رفح وفقًا لترتيبات أمنية جديدة، بالتنسيق مع فتح وحماس، تجنبًا لاتهام مصر بتعزيز الانقسام.. وجاء الإعلان عن هذه الترتيبات الجديدة لإدارة معبر رفح، عقب توقيع اتفاق المصالحة، نهاية أبريل عام 2011.
حاول البعض المزايدة على دور مصر على الصعيد الإنساني، من خلال الشائعات والأكاذيب، إلا أن إشادة رئيس العمليات لمنطقة الشرق الأوسط باللجنة الدولية للصليب الأحمر، روبير مارديني، بـ"التعاون الوثيق بين اللجنة والحكومة المصرية، في إطار الجهود المبذولة لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني في أزمته الراهنة"، كانت صكًا ببراءة ساحة مصر من كل ما يُنسب إليها زورًا وبهتانًا.. وثمَّن روبير مارديني، سماح السلطات المصرية بدخول عشرات المصابين الفلسطينيين للعلاج في المستشفيات المصرية، فضلًا عن السماح بدخول شحنات المساعدات من الأدوية والمواد الغذائية والمهمات الطبية.. وهنا، يجب الاشارة إلى أن الرئيس السابق، عدلي منصور، حقق إنجازًا خاصًا بالقضية الفلسطينية، عندما نجحت مصر فى عهده، فى إقناع حركتى "فتح وحماس" بالتوقيع على اتفاقية المصالحة، التى طالما سعى إليها وأكد عليها فى لقاءاته وحواراته خلال عشرة أشهر.
بعد تولي الرئيس السيسي مقاليد السلطة في البلاد، ظلت القضية الفلسطينية قضية مركزية بالنسبة لمصر، وبذلت القاهرة العديد من الجهود لوقف إطلاق النار؛ لتجنب المزيد من العنف وحقن دماء المدنيين الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني، الذين يدفعون ثمن مواجهات عسكرية لا ذنب لهم فيها، فضلًا عن الجهود الإنسانية التي قدمتها من خلال فتح معبر رفح لاستقبال الجرحى والمصابين الفلسطينيين، ودخول المساعدات الغذائية والدوائية للشعب الفلسطيني.. وتظل مصر رائدة، إذ في ظل حربها ضد الارهاب ومواجهة المشاكل الاقتصادية، وجدنا الرئيس عبد الفتاح السيسي يعلن، خلال لقاءاته مع المسئولين الفلسطينيين، وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس، أن مصر ستواصل مساعيها الدءوبة من أجل إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.. وأن التوصل لتسوية عادلة وشاملة، من شأنه أن يدعم استقرار المنطقة، ويساهم في الحد من الاضطراب الذي يشهده الشرق الأوسط.. ضرورة الحفاظ على الثوابت العربية الخاصة بالقضية الفلسطينية.. وأن مصر تدعم الفلسطينيين في كل خطواتهم التي تحقق قيام دولتهم المستقلة، وتضمن لشعبها العيش في أمن وسلام.. وللحديث بقية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.