جلد الذات العربية
إحدى علامات التقدم فى السن أن يقول الإنسان لنفسه كثيرًا «لقد مر بى هذا الموقف من قبل»، ولا شك أننى قلت لنفسى كثيرًا «لقد مر بى هذا الموقف من قبل» وأنا أشاهد الحروب الإسرائيلية المختلفة على غزة، والصدامات معها منذ عام ٢٠٠٠ حتى الآن.. والحقيقة أننى لا يعنينى الجانب الإسرائيلى المعتدى.. فهو كيان استيطانى عنصرى معتدٍ منذ نشأته وحتى الآن.. ولكن يعنينى نظرتنا نحن كمصريين وكعرب للعدو من جهة ولأنفسنا من جهة أخرى.. والأخطاء التى نقع فيها فى نظرتنا للعدو ولأنفسنا وللصراع بأكمله، وهى أخطاء سببها أننا ننطلق من مقدمات خاطئة تقودنا إلى نتائج خاطئة، ومن ثم إلى حالة من جلد الذات والنواح «الكربلائى» الذى تشعر فيه الجماعة أنها تقاعست عن نصرة قضية ما أو معنى بسبب جبنها وتقصيرها وليس بسبب عوامل موضوعية، فتنطلق فى موجات هستيرية من سب الذات واتهامها بالتقصير وعدم الرجولة والخيانة.. إلى غير ذلك مما يضر الصديق ويفيد العدو للأسف الشديد.. ويمكن أن نلخص عددًا من المقدمات الخاطئة التى تقودنا لنتائج خاطئة فى عدة نقاط.. أولاها الاستخفاف بقوة العدو.. كأن ننشر مثلًا فيديو لجندى إسرائيلى يرقص بمياعة فى ظرف ما لنجعل من هذه الصورة، الصورة الذهنية للجيش الإسرائيلى وهذا خطأ كبير لأن عدم تقدير قوة الخصم يقودنا للاستخفاف به أولًا.. وللوم أنفسنا على عدم قدرتنا للانتصار عليه، فى حين أننا نعتقد أنه ضعيف وتافه.. فنقول لأنفسنا.. لا بد أن فى الأمر تقصيرًا.. أو يقول الطابور الخامس.. لا بد أن فى الأمر خيانة.. ويدخل الجميع فى حالة من فقدان الثقة فى الذات والاكتئاب الجماعى والمزايدات الفارغة.. والحقيقة أن الجيش الإسرائيلى جيش قوى ولديه أسلحة متقدمة، وسبق له أن هزم الجيوش العربية وهو قوى لأن الغرب يتبناه وأمريكا تمده بكل عوامل القوة، لذلك اعتبرنا انتصار الجيش المصرى عليه بمعونة الدول العربية معجزة مصرية وهى كذلك بالفعل.. وبالتالى هو عدو ليس سهلًا، وعظمة الجيش المصرى حاليًا أنه يستطيع أن يكبد الجيش الإسرائيلى خسائر جسيمة جدًا جدًا وأن يضرب إسرائيل فى العمق إذا لزم الأمر.. لكن الحرب ليست نزهة، ولو كان الجيش الإسرائيلى جيشًا ضعيفًا لأقدمت دولة مثل إيران على الدخول فى حرب معه، ولكنها لم تفعل رغم أن الدولة هناك ترفع شعارات إسلامية وتعتبر فلسطين قضيتها المركزية.. نفس الأمر بالنسبة لدولة مثل تركيا يحكمها حزب إسلامى منذ ٢٠٠١ وهى ليست فقط لا تحارب إسرائيل، لكنها حريصة على علاقات قوية معها معظم الوقت باستثناء أوقات الأزمات.. هذه الدول لا تفعل ذلك، ليس لأن حكامها خونة أو مقصرون ولكن لأن موازين القوى فى العالم لن تترك أحدًا ينتصر على إسرائيل والجميع يدرك ذلك.. وبالتالى يجب أن نفهم أن إسرائيل جزء من الحضارة الغربية تملك نفس أسباب قوتها وتحظى بدعم غير محدود منها، وأننا نستطيع أن نوازن القوى معها وأن نردعها وقت اللزوم وأن نخيفها وقت اللزوم، لكننا غير مطالبين بالدخول فى حرب معها وعلينا جميعًا أن ندرك أنها عدو قوى، كما أننا أقوياء.. إذا انتهينا من هذه النقطة «إسرائيل عدو قوى» فسننتقل للنقطة الثانية وهى أننا غير مقصرين فى عدم إبادتها أو إزالتها من الوجود، كما يحلم بعض حسنى النية من المصريين أو أننا مقصرون لأننا لا نعلن الحرب عليها كلما اشتبكت مع حماس.. والحقيقة أنها اشتبكت وستشتبك مع حماس مرات عديدة فى المستقبل.. وكلاهما ضرورى للآخر.. وكلاهما يجنى مكاسب من الاشتباك مع الآخر ويحقق وجوده من خلال هذا الاشتباك ونحن نساعد إخوتنا بكل طريقة ممكنة، لكننا غير مطالبين بإعلان الحرب كرد فعل لنزاع اتخذ قرار البدء فيه غيرنا سواء فى حماس أو فى إسرائيل.. أحد أوهام التفكير العربى أيضًا أننا نظن أن الحرب «خناقة شارع» وأنها معركة على طريقة داحس والغبراء.. وقد وصف هذه الحالة الشاعر الكبير نزار قبانى الذى طعنته النكسة فى قلبه فأعلن صرخته فى قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» التى شرح فيها الذات العربية وعرى عيوبها وكان من ضمن ما قال «لقد هزمنا لأننا نحارب بكل ما يملكه الشرقى من مواهب الخطابة.. وبـ العنتريات التى ما قتلت ذبابة»، والعنتريات نسبة لفارس العرب عنترة بن شداد.. حيث ما زال ملايين العرب يظنون أن الحروب يتم كسبها بالشجاعة الفردية على طريقة «إبراهيم الأبيض» بطل الفيلم الشهير.. والحقيقة أن القوة الشاملة هى حاصل جمع القوى الاقتصادية والسياسية والمعنوية والعسكرية والتحالفات الدولية والقرار الذى اتخذته القوى الكبرى بخصوص الأطراف المتنازعة وما تضمره لكل منها.. لكنّ كثيرين جدًا منا يعيشون فى العصور الوسطى ويظنون أن الحروب يتم خوضها على طريقة عنترة بن شداد ولا يعنى هذا أى شىء سوى أننا منقطعون عن العالم والمعرفة به وتنقصنا الثقافة السياسية وغير السياسية.. ويقودنا هذا إلى ثالث أخطاء التفكير العربى وهو الاعتقاد أن الأعمال الفدائية أو حروب العصابات يمكن أن تؤدى إلى كسب المعركة.. وهذا خطأ كبير جدًا.. لأن الفلسطينيين لم يتوقفوا عن العمل الفدائى منذ ١٩٤٨ وحتى الآن.. ولكن العمل الفدائى عامل ضغط يمكن أن يحقق أهدافًا تكتيكية ولكنه لا يؤدى لكسب صراع كامل، وإحدى معضلات حركة المقاومة الإسلامية حماس أنها بلا أفق سياسى، وبالتالى لا تستفيد من حروب العصابات الناجحة التى تشنها على إسرائيل، ولا تستخدمها كورقة ضغط فى التفاوض، وهذا خطأ سياسى يؤدى إما إلى بقاء الوضع على ما هو عليه، أو إلى تدهوره للأسوأ إذا نجحت إسرائيل فى الإضرار بحماس أو إلحاق مزيد من الأذى بأهل غزة.. ولكن العمل الفدائى مهما اتسم بالشجاعة لا يحل القضية.. ولهواة جلد الذات من المصريين أقول لهم اقرأوا تاريخكم، فقد اجترح المصريون فى ثورة ١٩١٩ بطولات فدائية ترقى لعالم الأساطير وألهموا كل الشعوب المستعمرة.. وكان سعد زغلول يذهب للتفاوض صباح كل يوم يقع فيه حادث فدائى ضد الإنجليز ليحصل على مكسب جديد.. وكان يدعى أنه ليست له علاقة بالجهاز السرى للثورة، فى حين أنه هو الذى كلف بتأسيسه ويعرف كل تحركاته.. لذلك نجحت ثورة ١٩ «على عكس ما قالوا لنا فى المدارس»، وتم إلغاء الحماية البريطانية، وأعلنت مصر دولة حرة مستقلة غير تابعة لأى كيان غير نفسها.. لأن المصريين كانوا يضربون فى المساء ويفاوضون فى الصباح.. على عكس ما تفعل حماس التى تعيد تكرار نفسها منذ ٢٠٠٥ وحتى الآن مع اختلاف فى التفاصيل.. يجب أن ننقد أنفسنا أولًا، ويجب ألا نستخف بعدونا ثانيًا، ويجب أن نتوقف عن التفكير بعواطفنا ثالثًا، ويجب أن نتوقف عن الإحساس الكاذب بالتقصير رابعًا، ويجب أن نتوقف عن التفكير العاطفى خامسًا، ويجب أن نخرج من ثقافة العصور الوسطى سادسًا، ويجب أن يدرس الشعب معنى الحرب العلمى ما دام مشغولًا بها لهذه الدرجة سابعًا.. يقول المثل رحم الله رجلًا أهدى إلىّ عيوبى.. وأنا أرى أننا كعرب ومسلمين كلنا عيوب ولكن لا نقول لبعضنا البعض ذلك.. والنتيجة كما ترى!