ربيبة الاستعمار
فى التسعينيات المبكرة كنت معجبًا بمصر فى فترتها الناصرية وما زلت أحمل عاطفة تجاه هذه الفترة التى اتسمت بالأحلام الكبيرة والانتكاسات الكبيرة أيضًا، لكن هذا الإعجاب لم يمنعنى من ممارسة التفكير النقدى تجاه تراث هذه الفترة والأدبيات السياسية الخاصة بها.. وكان من أكثر ما أتوقف عنده الأوصاف التى كانت تطلق على إسرائيل فى تلك المرحلة.. كانت الصحف والخطابات السياسية تصف إسرائيل بأنها «ربيبة الاستعمار»، وكان السياسيون يتحدثون عن «إسرائيل ومن وراء إسرائيل».. وكان التفسير السياسى لوجود إسرائيل يقول إنها زرع استعمارى للقوى الكبرى فى وسط الوطن العربى لكى تعوق تقدمه ووحدة أقطاره!.. كنت أقول لنفسى إننى يجب أن أحترز من هذه الأوصاف تجاه إسرائيل التى هزمت العرب فى يونيو ٦٧، وكنت أقول لنفسى أيضًا أى وحدة هذه التى تعطلها إسرائيل والعرب ضد بعضهم البعض دون وجود إسرائيل.. إلخ.. بشكل عام كنت أبنى نوعًا من الدفاعات العقلية تجاه توصيف الستينيات لإسرائيل كى أستطيع أن أرى الصورة بزاوية أوسع وأكثر واقعية.. وأعترف الآن بأننى كنت مخطئًا فى ذلك الشك النقدى فى توصيف خطاب الستينيات لإسرائيل، فالأيام أثبتت صحة توصيف الإعلام والسياسة وقتها لإسرائيل حرفيًا.. لقد كانوا يقولون إنها «ربيبة الاستعمار».. والأيام تثبت لنا أنها ربيبة الاستعمار بالفعل.. فقد هرع رئيس أكبر دولة غربية فى العالم لنجدة إسرائيل بنفسه وكأن مصابًا أصاب أحدًا من أبنائه، ولم يمنعه انفجار صاروخ إسرائيلى فى مستشفى من إتمام زيارته، بل إنه تطوع بتبرئة إسرائيل من إطلاق الصاروخ قبل إجراء أى تحقيق!، بل إنه حرك أساطيل وطائرات أمريكا والغرب كله لتصطف أمام شواطئ غزة فى مظاهرة حربية هدفها إرهاب شعوب ودول المنطقة العربية، وما فعله رئيس أمريكا فعله رئيس وزراء بريطانيا أو «ذيل الكلب»، كما يوصف منصب رئيس الوزراء البريطانى فى علاقته بأمريكا «المنصب وليس الشخص»، وفعله المستشار الألمانى «شولتس»، وفعله وفد من نواب الكونجرس الأمريكى.. والجميع يفكرون ويضغطون من أجل تحقيق أقصى مكسب ممكن لإسرائيل، والجميع يقاتلون من أجل تصفية القضية الفلسطينية، والجميع يضغطون لطرد أهل غزة إلى سيناء كى تخلو فلسطين كاملة للمستوطنين اليهود القادمين من أنحاء العالم المختلفة إلى أرض لم يولدوا فيها ولا يعرفون عنها شيئًا.. والجميع ينصبون الفخاخ الاقتصادية لمصر ويواصلون الضغط لأقصى درجة حتى يستطيعوا تنفيذ خطتهم.. وبعض العرب لاهٍ.. وبعضهم متواطئ وبعضهم يعيد تكرار قصة والى عكا، الذى تحالف مع الصليبيين بدلًا من أن يتحالف مع بنى جلدته.. من الصفات التى كانت تطلق على إسرائيل وأثبتت الأيام صحتها أنها «رأس جسر» للاستعمار العالمى وأن هدفها تمزيق الوطن العربى.. وقد مضت الأيام لتثبت صحة وجهة النظر هذه، كل ما فى الأمر أن ما كان يتم فى السر أصبح يتم فى العلن وما كان يتم عبر أمريكا أصبح يتم مباشرة بين بعض العرب وإسرائيل.. والزواج أصبح علنيًا وعلى رءوس الأشهاد وإذا بأول مشروع لإسرائيل هو ضرب قناة السويس المصرية بتمويل خليجى، وحصار مصر اقتصاديًا، والتخطيط لإشعال حرب أهلية بين سكان سيناء وأهل غزة التى تريد تهجيرهم إليها بضغط من العالم كله، وكأن إسرائيل تريد التفرغ لشهر عسل طويل مع الخليج بينما تحمل مصر الهم والغم وتواجه الفصائل والإحباط الفلسطينى وتخون دورها التاريخى وتصفى القضية الفلسطينية حتى يفرغ العروسان الإسرائيلى والعربى لبعضهما البعض.. المهم أنه اتضح أن دور إسرائيل بالفعل هو تفتيت الوطن العربى وزرع الخلاف بين الدول العربية وإضعاف الدول القوية وتفتيتها وضربها ظلمًا وعدوانًا كما تم فى العراق، بوابة العرب الشرقية، وصاحبة تجربة النهضة المغدورة، وللأسف تم ذلك بتمويل من بعض العرب، وكما حدث فى سوريا صاحبة الاكتفاء الذاتى والجيش القوى وللأسف تم ذلك بتمويل من بعض العرب، وكما حدث فى ليبيا التى كانت دولة مستقرة فتم قتل رئيسها بغارات حلف الناتو وللأسف تم ذلك بتمويل من بعض العرب، وكما يفكر البعض أن يحدث ذلك فى مصر وأخشى أن يكون ذلك بتحريض من بعض العرب!، لكن مصر لحمها مر، وجيشها صعب، وشعبها بعشرات الملايين وأسلحتها لا تبقى ولا تذر وواهم من يتخيل أنه يمكن أن يهز استقرارها ويبقى آمنًا أو يتفرغ لقضاء شهر عسل مع عرب النفط.. أعترف بأنى كنت مخطئًا حين راودنى الشك فى التوصيف المصرى القديم لإسرائيل فور ظهورها.. نعم هى ربيبة الاستعمار، ونعم هى رأس جسر للقوى المعادية، ونعم هدفها تفتيت الوطن العربى، ونعم هى عدو لكل عربى ولكل جيش عربى.. أعتذر عن شكى الذى أثبتت الأيام أنى كنت مخطئًا فيه.