الانتفاضة والوعى الوطنى
تعودنا دائمًا أن نكتب عن ضرورة العمل على التوعية عما يحاك ويتعرض له الوطن من محاولات تفكيك أواصره ونشر الفتن والشائعات والتشكيك فى أى إنجازات تتحقق على أرض الواقع.. إلا أن ما نراه حاليًا من تلك الانتفاضة الشعبية التى لم تحدث فى مصر منذ عدة عقود وما نشاهده اليوم من مظاهرات تنديد وغضب لما يتعرض لها أشقاؤنا من الشعب الفلسطينى وما تلاها من مظاهرات تأييد لموقف مصر والرئيس عبد الفتاح السيسى فى جهوده السياسية والإنسانية تجاه الأحداث الدامية التى يتعرض لها أبناء فلسطين ورفضه لمحاولات التهجير القسرى ودفعهم الى اللجوء الى مصر وهى محاولات تمثل جريمة غير أخلاقية الهدف منها تصفية القضية الفلسطينية.. مانراه بالفعل يؤكد أن مصر دائمًا حاضرة وقت الشدائد وأن شعبها دائمًا على قلب رجل واحد طالما دعى الداعى لذلك.. وأن مشاكلنا الداخلية تتوارى مؤقتًا إذا كان هناك خطر خارجى يمكن أن يتعرض له الوطن وأمنه القومى.
وعلى الرغم من تحفظنا على تلك العملية العسكرية التى قامت بها حركة حماس يوم السابع من أكتوبر الحالى.. وعلى الرغم من أنها مثلت كابوسًا لدى القادة الإسرائيلين.. كما أنها أسعدتنا فى بدايتها الى حد كبير حيث خرجت مظاهرات التأييد لنجاح تلك العملية وانهالت المقالات هنا وهناك تحلل وترحب بنتائجها إلا أننا فى خضم تلك الفرحة نسينا أو تناسينا أن ما قام بتلك العملية التى أطلق عليها طوفان الأقصى عدد من عناصر حركتى حماس والجهاد الإسلامى لم يتعد عددهم المائتى عنصر فى حين أنهم يواجهون دولة وكيانا مدعوما بتأييد من المجتمع الدولى بصفة عامة والغربى والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة.. ومن الواضح أن القائمين بتلك العملية لم يضعوا فى حساباتهم أن ردود فعل إسرائيل لن تكون بهذه القوة وهذا العنف الذى كاد أن يصل الى حد الإبادة الجماعية.. وهنا تحولت نشوة السعادة التى شعرنا بها إلى غصة الحزن والألم لما تعرض له الشعب الفلسطينى بكل أطيافه وأعماره من ردود فعل قاسية من الجانب الإسرائيلى، خاصة بعد أن نجح فى إقناع الرأى العام العالمى بأن ما يقوم به هو للدفاع عن النفس وعن الأبرياء من الإسرائيليين وكذلك للإفراج عن الرهائن الأسرى الذين قامت حركة حماس بإحتجازهم لديها وهم من جنسيات مختلفة وهو الأمر الذى زاد المشهد ارتباكًا وأفقد حركة المقاومة الفلسطينية تعاطف ذلك المجتمع لها بل أعاد وصفها بالإرهاب وأن ما قامت به يمثل جريمة إرهابية مكتملة الأركان.
وفى أعقاب تلك المجزرة الوحشية التى ارتكبها الجيش الإسرائيلى بقصف المستشفى الأهلى المعمدانى والذى استشهد فيها أكثر من 500 شهيد وسقط مئات الجرحى وهدم الجيش المستشفى على جثث الأطفال الأبرياء وآبائهم وأمهاتهم بدم بارد وبتوحش لا إنسانى ولم يبالوا بالقوانين الدولية ولا بأبسط القيم الإنسانية فى حرب غير شريفة ضد العزل الأبرياء.. آفاق العالم الحر على تلك الفاجعة وبدأ يتعاطف بعض الشىء مع الشعب الفلسطينى وينادى بإيقاف العمليات العسكرية الوحشية ضده وبإدخال مواد الإغاثة والأدوية والأغذية لعلاج الشعب الفلسطينى المكلوم وبطبيعة الحال إتجهت أنظار العالم كله بلا استثناء الى مصر.. وهنا يظهر المارد المصرى القوى بكل شموخ وكبرياء ليعلن موقفه الداعم للشعب الفلسطينى – أقول للشعب الفلسطينى تحديدًا – ورفضه السماح بخروج الرعايا الأجانب من قطاع غزة إلا إذا وافقت إسرائيل على مرور قوافل الإغاثة عبر ذات المعبر.. بل إن مصر أكدت مرة أخرى على ضرورة إيجاد حل شامل ودائم للقضية الفلسطينية بحسبان ان ذلك هو السبيل الوحيد لكى تنعم فيه إسرائيل بالأمان والاستقرار.. سكتت جميع الأصوات إلا صوت مصر.. حاول الكثير من قادة العالم إثناء مصر عن موقفها والسماح للرعايا الأجانب بالخروج من غزة عن طريق رفح إلا أن الموقف المصرى مازال ثابتًا وواثقًا ولم يخضع لأى ضغوط أجنبية ودولية.. وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يخرج تصريح واحد من تلك الدول يهاجم أو ينتقد الموقف المصرى بل إن البعض منهم وأولهم الرئيس الأمريكى الداعم الأول لإسرائيل أشاد بمصر وبالرئيس عبد الفتاح السيسى فى نفس اليوم الذى زار فيه إسرائيل وأعلن من هناك تأييده بكل ما تقوم به إسرائيل تجاه الشعب الفلسطينى.
وعلى الرغم من تلك التصريحات والمؤتمرات التى صدرت من هنا أو هناك والتى تدعم الشعب الفلسطينى حتى ولو بمجرد الكلام يبقى الدور المصرى هو المسيطر على المشهد دائمًا مهما حاول البعض إلافتئات على هذا الدور أو تقزيمه أو التأثير عليه.
ومن هنا جاءت الانتفاضة الشعبية الوطنية للشعب المصرى لتؤيد ذلك الموقف المبدئى للرئيس عبدالفتاح السيسى خاصة بعد تلك التصريحات الواضحة والقوية التى جاءت خلال المؤتمر الصحفى مع المستشار الألمانى أولاف شولتس والتى حذر خلالها من تداعيات ما يحدث على الساحة الفلسطينية وما يثار عن فكرة تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء فى محاولة خبيثة لتقويض حق الشعب الفلسطينى فى تحديد مصيره وفى إقامة دولته عبر تفريغ الأرض من مواطنيها حيث تفقد الدولة أهم أركانها وهو الشعب فى حين تبقى الخطورة متفاقمة على الدول التى سوف تستقبل الفلسطينين جراء انتقال دائرة الصراع جغرافيًا من الأرض المتنازع عليها لتتحول الى دور الجوار لتكون الساحة الجديدة للمعركة وبطبيعة الحال فإن مصر هى أقرب دول الجوار لإسرائيل وفى ذلك تهديد صريح للأمن القومى المصرى.. ومن هنا جاء التأييد الشعبى الجارف لموقف الرئيس عبدالفتاح السيسى متبنيًا ذات الرؤية التى أعلن عنها وهى عدم قبول فكرة تهجير الشعب الفلسطينى فى ظل ما تحمله تلك الخطوة من تداعيات أمنية كبيرة وفى ظل تحول فكرة إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضيها إلى مجرد سراب بعدما يتم تفريغ الأرض من أهلها.
وبنظرة أمنية مصرية مخلصة أرى أن دعوات التهجير التى تنادى بها إسرائيل تمثل أحد أوجه ما كان يسمى "بالربيع العربى" الذى كان الهدف الحقيقى منه بث الفوضى فى دول المنطقة وما سوف يساهم فى توارى القضية الفلسطينية جراء تركيز كل دولة على مجابهة التحديات التى تلاحقها نتيجة الإرهاب والصراعات الداخلية التى سوف تحدث بها نتيجة خروج الفلسطنين من أراضيهم إلى تلك الدول وهو ما يمثل حلقة من حلقات نشر الفوضى بها وتجريد القضية من أهلها ومن تأييد الدول الداعمة لها.
إننى اليوم أجدنى أقف تحية تعظيم وإكبار لشعب مصر العظيم الذى انتفض عن بكرة أبيه ليعلن عن موقفه الرافض للعدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى الأعزل والرافض أيضًا لفكرة تهجيره بعدما اكتشف خيوط اللعبة الخبيثة التى تسعى إسرائيل الى فرضها على أرض الواقع كما أرى أن ما حدث يعيد لمصر دورها القائد للإمساك بقوة مرة أخرى بملف الفلسطينى بعد التداخلات التى حدثت خلال الفترة السابقة خصوصًا بعد ان وصل التهديد الى حدودها.. ومن هنا أيضًا فإننا جميعًا نترقب نتائج تلك القمة الإقليمية الدولية التى دعت إليها مصر وخطوات تنفيذ هذه النتائج ومدى جدية تنفيذها من منطلق أن هناك العديد من تلك الدول ومنها بعض الدول العربية ترتبط بمصالح مشتركة مع إسرائيل وتستطيع أن تمارس ضغوطها لإيقاف ما تقوم به من مجازر بشرية وتدمير للبنية التحتية فى قطاع غزة والعودة إلى مائدة الحوار لعلها ترضخ لفكرة حل الدولتين بعدما استشعرت بأنه لا أمان ولا استقرار لها طالما كانت هناك أجيال متعاقبة من أبناء الشعب الفلسطينى يشعرون بالظلم والاستعباد وأن لهم الحق فى إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وتحيا مصر.