حرب إسرائيل الخاسرة
فى إطار الصدمة التى أحدثتها الهجمة القتالية المفاجئة من حماس «طوفان غزة» فى 7 أكتوبر 2023، والتى هزت أركان إسرائيل وكشفت عن ثغرات خطيرة فى المنظومة الأمنية المتقدمة التى أحاطت بها إسرائيل حدودها مع قطاع غزة- هددت إسرائيل بسحق حماس وإبادتها إبادة كاملة، من خلال اجتياح غزة بقوة عسكرية ماحقة من البر والبحر والجو. واصطفت مع إسرائيل الولايات المتحدة الأمريكية التى صرحت بأنها تقف مع إسرائيل والدفاع عن بقائها دومًا وأبدًا (رغم أن ما تقوم به إسرائيل ليس دفاعًا عن بقائها ولكن هجوم غير مبرر لتستمر فى احتلالها لفلسطين وبناء مستوطنات وتهويد القدس).
ومع التهديد المتواصل بالغزو البرى بعد ما يقارب 10 أيام، تقوم إسرائيل بالفعل بقصف جوى وبرى مستمر للمبانى السكنية والمستشفيات داخل غزة مما ترتب عليه مقتل 2800 طفل ورجل وامرأة و8000 جريح.
كما قامت إسرائيل بفرض حصار لقطاع غزة وقطعت عن أهالى غزة الماء والغذاء والوقود والكهرباء. كما أنها طالبت مليون فلسطينى فى شمال غزة بإخلاء منازلهم وإخلاء المستشفيات والرحيل إلى الجنوب فى خلال 24 ساعة فقط!
وعندما يواجه الإسرائيليون بأبعاد هذه الجريمة التى ترقى إلى جريمة حرب ضد الإنسانية وتندرج تحت جريمة الإبادة الجماعية، فإنهم يصرحون بأن قرار تهجير وترحيل الفلسطينيين يهدف إلى إنقاذ حياتهم عندما تقتحم القوات الإسرائيلية البرية غزة لتسحق حماس، فى مغالطة صريحة لأن تهجيرهم دون تأمين ترحيلهم وتوفير مطالب الحياة لهم فى ملاجئهم يعنى بالفعل إصدار حكم بإعدامهم، وهل التهجير القسرى ليس سوى خطوة لترويع الفلسطينيين ونزوحهم إلى لاجئين، واحتلال غزة وإحلالها بمستوطنات إسرائيلية كما يحدث فى الضفة الغربية. وكان من المخططات الإسرائيلية أن يتم تهجيرهم إلى الأراضى المصرية فى سيناء، وهو ما رفضته مصر مسبقًا وحاليًا، وما يرفضه الفلسطينيون الذين عانوا من نكبة التهجير القسرى الذى تسببت فيه المجازر التى ارتكبتها العصابات الصهيونية الإرهابية فى 1948.
وبينما تهدد إسرائيل بالهجوم البرى تستمر فى قصفها لغزة وتدمير بنيتها الأساسية بينما تتراكم الجثث تحت الأنقاض بما يسببه ذلك من كارثة بيئية محققة. وإذا ما كان غرض إسرائيل من تهجير الفلسطينيين المدنيين هو الحفاظ على حياتهم أثناء الاجتياح البرى المرتقب فلماذا بادرت بقصف المنازل وقتل 2800 مدنى حتى حينه، ولماذا لا تسمح بمرور المساعدات الطبية والغذائية من ممر رفح، ولماذا قصفت الممر عدة مرات وهددت بقصف قوافل الإنقاذ، علما بأن الوضع الحالى قد أصبح كارثيًا بكل المقاييس ويزداد حدة كل ساعة تمر.
وعلى فرض أن الغرض من الغزو البرى المرتقب هو القضاء على حماس، فهل القضاء على حماس لا يمكن أن يحدث دون هجوم برى مكثف؟ ولماذا لا يتم من خلال عمليات نوعية – دون ترويع الأهالى وتهجيرهم وقصفهم ليلًا ونهارًا- علمًا بأن التكلفة البشرية لهجوم برى ستكون جسيمة وسيسقط من خلالها مئات الجنود الإسرائيليين، علمًا بأن العملية العسكرية فى جنوب لبنان فى 2006 أدت إلى مقتل 121 جنديًا إسرائيليًا وسقوط 1244 جرحى خلال 33 يومًا من القتالى الضارى. ولنا أن نتصور ضراوة القتال فى الشوارع والأنفاق فى مواجهة قوة إسرائيلية مهاجمة هدفها القضاء المبرم على حماس بل أملًا فى النجاة، علمًا بأن حماس استعددت بالتأكيد للهجوم البرى، وبأن نجاحها الاستراتيجى والتكتيكى والاستخباراتى فى «طوفان غزة» سيفاقم من الخسائر المرتقبة فى صفوف المهاجمين.
ولن نتوقف هنا على التكلفة الاقتصادية والمالية لهذه العملية العسكرية والتى ستغطيها بالتأكيد المساعدات الأمريكية وهبوط قيمة العملة الإسرائيلية التى تجرى حاليًا بالفعل، ناهيك عن تأثير الحرب على الاستثمارات والسياحة. وهل تصبح إسرائيل عبئًا على أمريكا من ناحية لما ستؤدى إليه جرائم الحرب من فضح سياسات إسرائيل للرأى العام الأمريكى من ناحية، ومن ناحية أخرى بازدياد تكلفتها العسكرية والمالية فى عالم متعدد الأقطاب تجد أمريكا نفسها فى مواجهة مع روسيا والصين.
وربما كان الأهم أنه من المستبعد أن تقضى على حماس قضاءً نهائيًا، كما لم تقض على حزب الله فى حرب لبنان فى 2006، وحتى لو نجحت فى ذلك، فلن تنتهى المقاومة الفلسطينية المسلحة، وسيظهر جيل جديد من أطفال وصبية وشباب هذه النكبة الثانية ممن فقدوا عائلاتهم وممن عانوا من مأساة التهجير والترويع وفقدان الأمن والأمان.
ومن منظور آخر، فهل من الممكن خلال اقتحام غزة استخلاص الأسرى وهم حوالى 199 شخصًا الذين تتحفظ عليهم حماس دون تعرضهم لخطر الموت من جراء القصف والتدمير؟ وبالطبع لن تفرج حماس عن الأسرى وهم مهددون بالإبادة ولم تتخذ إسرائيل أى وسيلة دبلوماسية للإفراج عنهم، ويبدو أن إسرائيل لا تهتم بحياة الأسرى، لأن إسرائيل ستتهم حماس بأنها المسئولة عن مقتلهم خلال الاجتياح البرى لاكتساب التعاطف معها.
ولا نستبعد أن تتوسع الحرب لتشمل جبهات أخرى، وهو ما تخشاه إسرائيل وأمريكا والذى قد يتسبب فى حرب إقليمية. وعلى الأقل ستنهار كل آمال إسرائيل فى التطبيع مع البلدان العربية.
كما أن خطاب الكراهية الذى تروجه إسرائيل وجرائم الحرب التى تقترفها إسرائيل سيؤديان إلى استهداف اليهود من ناحية، والمسلمين من ناحية أخرى فى موجة جديدة من العداوات الطائشة على أساس دينى، كما يدل على ذلك بالفعل مقتل طفل طعنًا بالسكين وهو فى منزله فى الينوى بأمريكا، ومقتل شخصين فى السويد قتلًا بالرصاص انتقامًا للمسلمين.
ستخسر الحرب لما ستتكبده من خسائر فادحة فى الأرواح، وستخسرها لأنها ستتسبب فى موت الأسرى، وستخسرها لأنها لن تقضى على حماس، وستخسر خسارة مدوية على الصعيد المعنوى لما تقوم به من جرائم حرب ضد الإنسانية، وستخسر الحرب لأنها ستعانى من أزمات داخلية لمن لن يسمح ضميرهم بما تسببت فيه حكوماتهم.
لا بديل لإنهاء العدوان الإسرائيلى الإجرامى بكل صوره قبل أن تتفاقم الكارثة، ولا تبرير لشريعة الغاب والانتقام دون أى اعتبار للدوافع والظروف والأسباب، والتصرف بحكمة فى هذا الوقت العصيب وتقدير مترو للعواقب ومدى خطورتها واحتمالاتها، وتوابعها على المدى الطويل. وأن يتم على وجه السرعة وقف استهداف طواقم الغوث والدفاع المدنى لإنقاذ ما يزيد على 8000 جريح والبحث تحت الأنقاض عن الجثث التى سقطت نتيجة للقصف الإسرائيلى الضارى. كل ذلك كمرحلة أولى لفرض سلام دائم من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلى وعلى أساس حل الدولتين بصورة عادلة تضمن للفلسطينيين الأمان والاستقلال.