مصر.. صوت العقل
دون أدنى انحياز عاطفى أقول إن مصر تمثل طوق النجاة الوحيد للأطراف المتصارعة فى الشرق الأوسط بشكل عام، والأزمة المشتعلة فى غزة بشكل خاص.. يقول سقراط إن الفضيلة هى الوسط بين رذيلتين، ومصر تطرح الحل الوحيد القابل للتطبيق بين «تطرفين»، ولا يعنى وصفى لممارسات حماس بالتطرف أننى ضد القضية الفلسطينية ولا ضد نضال الشعب الفلسطينى العظيم الممتد منذ سنوات طويلة سبقت ظهور حماس بعقود كاملة، وتنوعت فيه ألوان انتماءات الفلسطينيين السياسية وإن وحّدتهم قضية بلادهم التى كانت وستظل قضية المهتمين بالعدل كمعنى أخلاقى مطلق.. موقف مصر كما يعبر عنه اجتماع مجلس الأمن القومى المصرى هو الخلاص بين تطرفين فى اتجاهين مختلفين يرى كل منهما ضرورة إبادة الآخر أو الدخول فى «صراع صفرى» ضد الآخر على حد تعبير الرئيس السيسى فى حفل تخرج الكليات الحربية، والصراع الصفرى هو الذى يريد كل طرف فيه أن يلغى وجود الآخر، ويحوله إلى «صفر»، أو يجعله والعدم سواء.. ولا شك أن هناك أصواتًا وفصائل فلسطينية ترى أنه لا بد من إزالة إسرائيل من الوجود وترى الصراع صراعًا دينيًا لا يتحقق وعد الله فيه إلا بإبادة آخر إسرائيلى من الوجود، وأنا شخصيًا وعاطفيًا أحب هذا، لكننى أدرك أنه مستحيل التحقق، وهرولة وزيرى خارجية ودفاع أمريكا لإسرائيل، وحالة الاستنفار العسكرى الأمريكى تقول لك إن أمريكا والغرب لن يسمحا بالمساس بوجود إسرائيل مهما كان الثمن.. وبالتالى فتفكير حماس والجهاد وغيرهما من الفصائل المؤمنة بإزالة إسرائيل تفكير غير عملى وغير واقعى، وسيظل عاجزًا عن تحقيق الهدف الأكبر لهذه الفصائل وهو «إزالة إسرائيل»، وإن كانت العمليات تنجح أحيانًا فى تنفيذ أهداف تكتيكية، رغم اتسامها بالطابع «السيزيفى»، حيث يحمل سيزيف الصخرة إلى أعلى الجبل فتسقط فيحملها مرة أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.. وفى غزة فإن هذا هو الوضع.. عمليات ضد إسرائيل يعقبها انتقام ثم هدوء ثم عملية ثم انتقام.. إلخ.. وعلى الجانب الإسرائيلى نشهد منذ سنوات طويلة صعود التيارات اليمينية المتطرفة والمتنافسة فى التطرف، والإصرار على سياسات الاستيطان والتطهير العرقى والتهجير والاستيلاء على الأراضى المحتلة بالمخالفة لقرارات الأمم المتحدة.. وما يزيد من اشتداد الأزمة ووصولها لدرجة الغليان عدم وجود قيادة رشيدة للعالم، واتسام الإدارة الفلسطينية الحالية بأكبر قدر يمكن تحمله من السخافة السياسية، والتعالى وانعدام الكفاءة يقابلها على الجهة الأخرى قيادة روسية تميل لتسديد اللكمات المفاجئة ثم المناورة ثم العودة لتسديد اللكمات وهكذا.. بينما يشهد الشرق الأوسط منذ الربيع العربى حالة صراع إقليمى اتسمت فى الثلاث سنوات الأخيرة بالسيولة وتبديل المقاعد، ومحاولة بعض الدول لعب دور أكبر من إمكاناتها ومحاولات حصار لدول أخرى وتعويقها عن ممارسة دورها التاريخى، فيما يبدو وكأنه لعبة كراسٍ موسيقية كبرى.. فالخليج شرع فى التطبيع من جهة، ثم فتح قنوات اتصال بإيران من جهة أخرى، ثم جاءت عمليات حماس لتطيح بالتطبيع مع الخليج من جهة، ولتطرح تساؤلات حول جدية الصلح بين الخليج وإيران من جهة.. وفى وسط هذه الضوضاء كلها يفكر وزير خارجية أمريكا فى أن تدفع الدولة الأكثر اعتدالًا فى المنطقة الثمن، وأن يتم تهجير أهل غزة لسيناء!! وكأن علينا أن نسدد فاتورة صراع تاريخى فى فلسطين من جهة وصراع إقليمى بين إيران والخليج من جهة!! وإزاء كل هذه السخافة أعلنت مصر موقفها واضحًا، سواء برفض تصفية القضية الفلسطينية أو رفض تهجير أهل غزة لسيناء، أو بالدعوة لمؤتمر دولى يناقش قضية فلسطين فى ضوء مستجدات العالم، ويتيح الفرصة للأصوات العاقلة والرشيدة التى أصبحت نادرة فى هذا العالم لإيقاف هذا الصراع الصفرى، وإيقاف أمريكا عن ممارسة السخافة السياسية، وإنقاذها من أعراض تصلب الشرايين السياسى من جهة، وإيقاف جموح التطرف المقابل من جهة، والاستماع لصوت العقل المصرى من جهة ثالثة.. هذا هو الحل الوحيد لو كانوا يفقهون.