فن التفاوض وإدارة الواقع المفروض
الصراع والنزاع على أشده في مختلف المستويات، وعلى كل الأصعدة، تترجمه محاولة الأفراد أو الجماعات بلوغ الأهداف، وتحقيق الغايات التي يسعون إليها بشتى السبل ومختلف الوسائل، وتتسع دائرة التزاحم كلما ارتقت على مستوى الكيانات وفيما بين الدول؛ ليصبح مجال تحقيق أهدافهم أكثر شراسة وأشد نكاية عبر المساومة مع طرف آخر، لديه ميزات وسمات تمكنه من السيطرة على بعض الجوانب لتحقيق الأهداف لأكثر من طرف.
يظهر متغير التفاوض كمعطى هام وجوهري لتقريب وجهات النظر والالتقاء حول نقطة على مسافة تتقارب وتتباعد بمقدار إتقان فن التفاوض، الذي يتطلب دراية كبيرة بالاتصال ومهارة في صنع القرار واستخدام السلطة والسياسة والحكمة والمساومة وحتى المخادعة؛ من أجل نجاح العمليات التفاوضية المفضية للأهداف المرحلية، ومنها إلى الأهداف الاستراتيجية. التأثير والإقناع محددات شد وصل المفاوضات باعتبارها حجر الزاوية لاستراتيجيات المساومة التي لها ديناميكيات سلطوية لها ملامح قوة السلطة وطاقة العقل اللانهائية في توظيف الذكاء والحكمة والفطنة وضبط النفس؛ ليحصل المفاوض على ما يُريده من الآخرين مقابل ما يحصلون عليه منه. التخطيط للتفاوض إجراء سابق يشتمل على تقييم شامل لنقاط القوة والضعف لدى المفاوض نفسه والخصوم. صياغة استراتيجيات وخطط التفاوض تختلف قطعًا عن غيرها؛ لأن نجاح التفاوض مرهون باستثمار المتغيرات السريعة الطارئة على مسار التفاوض، التي بمقدار توظيفها وضبط إيقاعها تتحقق المكاسب وتنخفض الخسائر.
نجاح التفاوض مرهون بالبناء السليم لهيكل مرن في إطار كيف سيدير المفاوض عملية التفاوض، وهل يفهم خصومه قدراتهم وإمكاناتهم ورغباتهم، سلوك مساومة الخصم يحكمه التحضير، الذي يُحدث فرقًا تفاوضيًا يوازي الأسلوب الشخصي والقدرات المهارية التفاوضية أثناء التفاوض الفعلي، كما هي في المقولة العربية "شعرة معاوية" لها صفة المرونة في الشد والجذب وخاصية الاستمرار ودوام التواصل وعدم الانقطاع.
التحاور وتبادل وجهات النظر للوصول إلى حلول وسطية لجميع الأطراف ليست بالضرورة مرضية للجميع، لكنها محققة لمكاسب، وفي الوقت نفسه مخفضة لخسائر، وأيضًا داحرة لشر أعظم ضررًا.
متغير الزمان عنصر هام من عناصر نجاح التفاوض، فتحت ضغط الوقت يخسر الكثير من المفاوضين وبالمقابل يكسب آخرون، وقد يُفلس الجميع، وهنا تبرز المهارات التفاوضية لمن ينجح في الاقتراب من غايته إذا استمع جيدًا وتحدث بمصداقية وعمل على إيصال وجهة النظر بوضوح وبادر بكسب الثقة بالمرونة في الأسلوب والقوة في المضمون تصحبها طموحات كبيرة دون صدامات عنيفة. تكتيك القبول أو الرفض مساحة واسعة يمكن المناورة بها بعملية التفاوض للخروج من سلبية الافتراضات المسبقة التي لا تدعمها مسلمة الاختلافات أثناء المواجهة على طاولة التفاوض، ومن المهم التعرف على هذه الاختلاف ودراستها بشكل متمعن للخروج بتصورات جديدة تجعل التفاوض مثمرًا.
المعلومات سلاح إنجاح عملية التفاوض، فبمقدار الرصيد منها، وما الذي يبديه كل طرف، وما الذي يخفيه، والتوقيت الزمني لذلك، كلها توجه مسار التفاوض وتُرجح كفة المكسب.
من الأهمية بمكان تبني خطوات عملية لبدء التفاوض ترتبط بأربع مراحل "الإعداد، والتحاور، والعرض، والتساوم"، فالإعداد يتمحور حول تحديد المطالب، والتحاور يُركز على وسائل تقييم رؤى المفاوض الآخر، والعرض يتضمن تشخيص المشكلة ضمن ما يطلبه المفاوض وما يُريده من الطرف الآخر، والتساوم ينصب على التداول الواعي للأفكار والرؤى والطروحات والنقاشات والمداولة الفعالة وتقديم التنازلات بتدرج وتناغم وتوظيف عنصر الوقت في تعظيم فرص نجاح التفاوض.
فرص الفوز بالتفاوض تعتمد على توجه ذهني في كيفية السيطرة على مقاليد الأمور ثم التحكم فيها وتوجيهها بأريحية نحو الهدف ضمن أسرار التأثير على الآخرين، كالارتباط والاحتياجات والانحياز والتحكم والتقييم والفهم والخروج من دائرة التفكير في أسباب عدم القيام بسلوك معين إلى كيفية القيام بهذا السلوك، واللعب على وتر المعلومات التتابعية التي تستخلصها الأسئلة المطروحة بعناية من خلال السؤال الشامل المفتوح، وتهيئة الإجابات للخروج من الأسئلة الحرجة والمفاجئة للطرف الآخر، وتوسيع دائرة البدائل والمسارات ومنطقة الاتفاق المحتمل، فالإنسان بطبيعته كائن مفاوض، فهو دائمًا في مفاوضات. من استراتيجيات التفاوض التنافس والمواءمة والتهدئة والتجنب والتسوية والتنافس والإكراه والإرباك والتعاون والانسحاب في إطار فرص تلوح وتختفي تستثمرها العبقرية والحنكة التفاوضية وتقوض مكاسبها الحماقة والغفلة.
سياسات فرض الأمر الواقع غالبًا ما تكون ممارسات الأقوياء ونهج المنتصر، فالقوي يفرض الشروط ويحدد ملامح التفاوض ومنهج سير المفاوضات. ضمن أربع استراتيجيات للتفاوض "الفشل الفشل، والفشل النجاح، والنجاح الفشل، والنجاح النجاح"، ففي الحالة الأولى "الفشل الفشل" كلا الطرفين لا يستطع الوصول إلى نتيجة إيجابية تلبي طموحه وتحقق رغبته، كما هو الحال في مفاوضات القضية الفلسطينية. أما في الحالة الثانية "الفشل النجاح" فإن الطرف الذي يُعتبر الأقوى يُجند كل طاقاته وإمكاناته لكسب جولة المفاوضات وحرمان الطرف الآخر من تحقيق أي مكاسب.
وفي الحالة الثالثة "النجاح الفشل" يستحوذ الطرف الأدنى على أعلى مكاسب التفاوض لتفرده بمهارات تفاوضية أكثر عمقًا ودراية بدهاليز الجوانب الحرجة التي ينبغي للمفاوض العربي أن يرتقي إليها استثمارًا للقيمة العربية ذات العبقرية والحكمة والفطنة والدهاء، والتي لم تزل مشرذمة وغير موحدة الرؤى والتطلعات. والذي يُرتجى البناء عليه لبناء منظومة عربية للتفاوض تجمع ذوي الخبرة والمهارة والدراية من مختلف الجنسيات العربية لها أن تستفيد من معطى التقنية في التواصل والاتصال لتشكيل جبهة عربية تفاوضية تمد جسور الثقة وتتخطى المحددات والعوائق وتضع المفاوض العربي في المكانة التي تليق به وبموروثه الحضاري المتفرد بين الأمم والشعوب لانتزاع بعض الشيء من الحق العربي المسلوب ونيل النصيب الممكن من الفرص المهدرة، وخفض طوق القيود والشروط المملاة على ثرواتهم وطاقاتهم، وتحسين مواقفهم في القضايا والمطالب على المستويات الإقليمية والدولية.
أما الاستراتيجية الأخيرة "النجاح النجاح" تعتمد على مرونة طرفي التفاوض وقدرتهما على مقاربة الحلول وتوزيع المكاسب على الكفتين بالتراضي، الذي يجعل من التفاوض نجاحًا. ولعل الوطن العربي تواق لمشاهدة فريق تفاوض عربي له الريادة والصدارة في نجاح المفاوضات العربية ضمن منظومة عربية لها أبعادها الوطنية والإقليمية والدولية.
- خبير استراتيجي