دع «الموبايل» وابدأ الحياة
فى نهايات عام ١٩٨٤ نشر الكاتب الأمريكى ومندوب المبيعات الأشهر ديل كارنيجى كتابه «دع القلق وابدأ الحياة»، وهو الكتاب الذى انفجرت بعده «ماسورة» التنمية البشرية فى وجه البشرية والكون و«الكل كليلة»، وقيل إن مؤلفه انتحر بعدها بإحدى عشرة سنة، على الرغم أن المعروف عنه أنه مات متأثرًا بتداعيات إصابته بسرطان الدم، فإن حياة كارنيجى لا تخلو من منغصات تفتح الباب أمام تأكيد احتمالية انتحاره التى ينفيها قراؤه ومحبوه وناشرو طبعات كتابه الأكثر مبيعًا حول العالم، وإن كان هناك كتاب آخر له تفوق عليه فى المبيعات داخل الولايات المتحدة الأمريكية، هو «كيف تكسب أصدقاء؟» الذى باع نحو خمسة ملايين نسخة بعد الرحيل المفاجئ لمؤلفه.
فى كتابه تعمد كارنيجى حكاية قصص مؤثرة لمشاهير عاشوا يعانون من القلق والاضطرابات النفسية، وعندما تخلصوا من تلك المشاعر انطلقوا إلى عالم الشهرة، وعاشوا حياتهم، وربما ساعد فى انتشار الكتاب أن مؤلفه اعتمد فى كتابته على البساطة والوضوح، باستخدام عبارات سهلة موجزة دفعت به إلى الصدارة، ودخلت به إلى عالم الشهرة والمال، والقدرة على التأثير.
فى ذلك الوقت لم يكن الهاتف المحمول قد ظهر إلى الوجود، ولم يكن قد صار «ذكيًا»، يمكنه التصوير والمونتاج وحجز غرف الفنادق وتذاكر الطيران، وغيرها من أعمال يمكن معها اعتباره بديلًا للحياة كلها، إذ لم يعد الهاتف مجرد وسيلة اتصال تعمل على تقريب المسافات، وتنسيق المواعيد، والاطمئنان على الغائب، أو أى من المسائل التى تحسمها محادثة هاتفية، طارئة أو غير طارئة. وخلال سنوات معدودة، صار بإمكانه التصوير، والكتابة، والحذف والإضافة، فتحول إلى وسيلة لإنتاج الأخبار والتقارير وبثها، أو البحث عن المعلومات، وتدقيقها، ثم سرعان ما دخلت عليه أدوات الترفيه وقضاء الوقت، فظهرت الألعاب الجماعية والفردية، والعابرة للمحيطات، وتحولت شاشته إلى مساحة عرض لمشاهدة الأفلام أو المسلسلات، ومتابعة العروض، ومنها إلى عالم التجارة والأعمال، فبدأ من تسهيل حجوزات الفنادق وتذاكر الطيران والرحلات إلى أى وجهة على سطح الأرض، ومنها إلى البيع والشراء وإنشاء المتاجر الإلكترونية، وصولًا إلى ما بدأ الإعلان عنه فى الأشهر الأولى من ٢٠٢٣ بشأن تطبيقات وأدوات الذكاء الاصطناعى التى يمكنها كتابة الشعر والرواية، وتقليد الأصوات والصور، وتحريكها فى الزمان والمكان، فصار من الممكن أن تستمع إلى قصيدة «رسالة من تحت الماء» للعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، يغنيها شعبان عبدالرحيم، أو عبدالباسط حمودة، بينما يشدو عبدالحليم برائعة حمو بيكا وعمر كمال، المعروفة باسم مهرجان «انتى معلمة»، أو «عود البطل» أو غيرهما من المهرجانات الشعبية.. باختصار صار الهاتف بديلًا عن كل شىء يمكن أن يحتاجه الإنسان، ووسيلة لتعويضه عن كل ما ينقصه، حتى العلاقات العاطفية، أصبح طرفًا فاعلًا فيها، لا كوسيط كما فى تطبيقات «المواعدة» الشهيرة والكثيرة، ولكن كبديل عن الطرف الآخر، كما تنبأ به الفيلم الأمريكى «هير» أو «هى» الذى أنتج عام ٢٠١٣، وقام ببطولته كل من خواكين فونكس، وسكارليت جوهانسون.
وأغلب الظن أنه لو عاش كارنيجى إلى زمن الألفية الجديدة، لغير عنوان كتابه إلى «دع الموبايل وابدأ الحياة»، خصوصًا مع تنامى التحذيرات من التأثيرات الضارة لطول التعرض لشاشات التليفونات المحمولة، وما تؤدى إليه من عزلة، وابتعاد عن الحياة الحقيقية، لجوءًا إلى عالم افتراضى، لا أصل له ولا وجود، بما يرفع من احتمالات الإصابة بالكثير والكثير من الأمراض النفسية والعصبية، وما يتبعها من انهيار للعلاقات الاجتماعية، ناهيك عما تحمله تلك الشاشات من أكاذيب وضلالات لا حد لها، ولا أرانى مغاليًا إن قلت إنه مع استمرار رحلة التطور المهولة التى تشهدها صناعة الهواتف المحمولة حول العالم، فإنه من المتوقع أن نرى فى القريب نهاية لجميع تفاصيل الحياة الإنسانية التى عرفناها وخبرناها طوال آلاف السنين.
واقع الأمر أن الأطباء النفسيين، والمتخصصين فى علوم النفس والاجتماع وبعض التخصصات الطبية البيولوجية، لم تتوقف تحذيراتهم من خطورة تعرض الأطفال «والكبار على حدٍ سواء» لشاشات المحمول، بداية من أطباء الأمراض الجلدية، والنفسية والعصبية، وصولًا إلى أطباء العيون، لما لها من آثار ضارة للجسم الإنسانى، على المديين القصير والطويل، ولما يصدر عنها من إشعاعات تؤذى المخ البشرى، أو تؤثر على الجلد، وغيرها من آثار مباشرة للجسم البشرى.. أما عما تقود إليه من عزلة وتوحد وأمراض نفسية، فحدث ولا حرج.
ربما كان الهدف الأصلى من كل تلك التطبيقات هو تطويع التكنولوجيا الحديثة لخدمة الإنسان، لتنفيذ رغباته، وتسهيل تحركاته، وتوفير كل ما يحتاج إليه، حتى ولو كانت مسألة عاطفية، أو حاجة نفسية.. وأغلب الظن أنه هدف لا بأس به، ولا غبار عليه، أو عيب، لكن ما حدث هو ما قلب المعادلة، وأدى إلى تحول جذرى وخطير فيما أضافه عنصر «الذكاء» إلى الهواتف المحمولة، إذ صار الهاتف بديلًا عن الحياة، ومعادلًا لها، بكل تفاصيلها، ومفرداتها، وصار الإنسان معزولًا وحيدًا مع شاشة صغيرة تنتصب قدام عينيه، فلا يرفعهما عنها، ولا تغادرانها إلا لكى تعاودان التحديق فيها، فكانت النتيجة الطبيعية والمتوقعة هى اختفاء كل علامات الحياة الطبيعية، وانسحابها تمامًا، وكأنه لم يعد للإنسان غير تلك الحياة الافتراضية التى أغرقته فى تفاصيلها، وزحام ما تعرضه عليه وتلاحقه به.
صار من النادر أن تسير فى الشارع فيصادفك من خرج للاستمتاع بنسمة هواء نقية أو طازجة، أو تجلس بجوار اثنين يتجاذبان أطراف الحديث، أو يتبادلان الرأى فى مسألة مهمة، الكل يسير بينما عيناه معلقتان بشاشة الهاتف، إما يطارد ثعبانًا افتراضيًا، أو يحارب أعداءً لا وجود لهم ولا أصل، أو يبنى مزرعة أو حيًا سكنيًا من الرسوم المتحركة، أو يتجول فى قرية متخيلة، يدخلها «الوحيدون» من جميع أنحاء العالم.. وأغلب الظن أنه إذا استمر الحال بتلك الوتيرة المتسارعة، فلا أمل للبشرية فى حياة مستقرة، أو على الأقل هادئة بلا أمراض عصبية ونفسية، إلا بالتخلص من ذلك القاتل اللطيف، أو على الأقل بالعودة به إلى ما تم اختراعه من أجله.