نجاح سلام.. بالسلامة يا حبيبى
«بالسلامة يا حبيبى» لنجاح سلام.. التى تصحب الذاهبين إلى العمل كل صباح فى الإذاعة المصرية- إلى جوار «يا صباح الخير ياللى معانا» لأم كلثوم بالطبع- هى مرآة روح فنانة عظيمة قدمت خمسة آلاف أغنية، وكانت صوت العواصم العربية فى اللحظات التى تحتاج فيها إلى الدعم بالغناء، تعامل المصريون معها على أنها مصرية ومنحوها جنسيتهم عرفانًا وتقديرًا لدورها العظيم فى الحشد، ففى العدوان الثلاثى غنت لهم ومعهم «أنا النيل مقبرة الغزاة» شعر محمود حسن إسماعيل وألحان السنباطى، و«يا أحلى اسم فى الوجود يا مصر» التى نستدعيها فى لحظات الفرح والانكسار لحن الموجى وكلمات إسماعيل الحبروك، هى مطربة العرب التى غنت لسوريا وللثورة الجزائرية «يا طير يا طاير خد البشاير من مصر واجرى على الجزاير»، و«محلى الغنا بعد الرصاص ما اتكلم» ولفلسطين، وللبنان بالطبع، هى بنت العرب جميعًا، التى تم تكريمها فى معظم العواصم، وتم تقليدها أرفع الأوسمة مثل «الإخلاص والشرف» من سوريا، و«جوقة الشرف» من فرنسا، ومفتاح «مدينة نيوجرسى» و«الأوسكار العربى» من أمريكا، وشهادة مجمع اللغة العربية- الجامعة العربية فى القاهرة «شهادة لم تُمنح لسواها من مطربى ومطربات الوطن العربى»، ووسام «الشهيد» من الجزائر، وكل الأوسمة اللبنانية، تشعر وأنت تستمع إليها أنها تعبر عن الجميع بصوتها الناصع المبين، صوت صادق حنون يغرف من أشواق قديمة خضراء.
كان عبدالحليم حافظ هو صوت ثورة يوليو باقتدار، وغنى لها ولمصر وللعروبة ولفلسطين المحتلة على طريقته فى الغناء، ولكن نجاح سلام وهى تغنى لمصر أو للقومية العربية أو لفلسطين، تشعر بأنها تقوم بوظيفة إضافية غير الغناء. اعتمدت نجاح سلام- كما كتبت صديقتنا الراحلة الشاعرة اللبنانية عناية جابر- «بالإضافة إلى فخامة الصوت كانت على معرفة غنائية، كوسيلة فكرية للتعبير، تتجسد فى مبادئ وقوالب موسيقية متعارف عليها ولازمة ضرورية لتميز المطرب أو المطربة. سلام ربطت بين ما تؤديه، وبين الخلفية الثقافية للعصر الذى نبع فيه وتفجر عنه، لأنها أدركت بحدسها الذكى أن مُميزات المجتمع السائدة على وجه الخصوص، المميزات الفكرية والثقافية والسياسية فى مرحلة من مراحل العالم العربى، تكون عادة هى نفس السمات التى تنطبع على العمل الفنى، أو التى يتوجب أن يظهرها العمل الفنى، ومنه الغناء الذى كان رسالتها وبرعت فيها».
نجاح سلام حفيدة مفتى لبنان وابنة الكاتب والمفكر اللبنانى محيى الدين سلام، هو أحد أبرز الملحنين وعازفى العود فى زمانه، وهو من علمها أصول الفن، ولذلك عندما جاءت إلى مصر نهاية أربعينيات القرن الماضى لم تشعر بغربة وسط نجوم هذا الزمن، ونجحت لفرادة صوتها من جهة، ولخبرتها الكبيرة بفن الغناء وأصوله من جهة أخرى، هى اختارت طريقًا محببًا للمصريين، وهو الغناء الشعبى، وجعلتنا نستطعمه باللهجة اللبنانية ونغنيه معها كأنه يخصنا، مثل «برهوم حاكينى»، و«ميل يا غزيل»، وبرعت أيضًا فى الغناء السائد الذى نافست فيه أصواتًا عظيمة كانت تصدح أيامها، مثل أغنية «عايز جواباتك» مع رياض السنباطى، إلى جوار الأغانى الدينية، كما كانت أول مطربة لبنانية تؤسس لصناعة السينما فى وطنها لبنان، حيث أنشأت شركة «سمر فيلم» مع زوجها الراحل محمد سلمان، كما أسست شركة إنتاج غنائى «ريما فون»، والشركتان على اسم ابنتيها من زوجها الفنان الشامل شريك نجاحها، وفى مصر قدمت العديد من الأفلام، ويرى البعض أن معظم تجاربها السينمائية لم تكن موفقة، وأنها كانت سببًا فى عدم منحها ما تستحق من تكريم وشهرة، وأعتقد أن السينما بشكل عام ظلمت أصواتًا من الصعب أن يجود الزمان بمثلها، مثل نور الهدى وسعاد محمد وعصمت عبدالعليم وحورية حسن، لأن مواصفات النجمة السينمائية كانت تتطلب مواصفات من نوع آخر لكى تنافس فى السوق، فلا يكفى أن يكون صوت المطربة أو المطرب جميلًا لكى ينجح فى السينما، وهى كان طموحها مرتبطًا بالغناء والموسيقى فى المقام الأول، واختارت أن تقدم أفلامًا أطلق عليها فيما بعد «السينما النظيفة»، أفلامًا بسيطة تعتمد على خفة الظل، نجاح سلام «مارس ١٩٣١- ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٣» هو جزء عزيز من وجداننا فى مصر، واستغربت كثيرًا اهتمام الصحافة الفنية بالحديث عن حياتها الشخصية وزيجاتها وحجابها بعد رحيلها، بعيدًا عن قيمتها الفنية الرفيعة ومسيرتها مع فن الغناء الذى برعت فيه، وقدمت من خلاله وليمة عامرة بكل صنوفه، وغنت بلسان معظم اللهجات العربية، وعاشت فى «نجاح» و«سلام».. ألف رحمة ونور على روحها.