حكاية وطن يجب أن يكمل ما بدأه
كنت أتابع جلسات مؤتمر «حكاية وطن» وأنا أفكر فى أمر يشغلنى كلما قرأت فى تاريخ مصر.. إننا لم نكمل أبدًا ما بدأناه فى أى عصر من العصور لذلك كان طبيعيًا جدًا أن نتقدم إلى الخلف! خذ أى فترة من الماضى القريب أو البعيد وتأمل فيها ستجد أننا نبنى ثم نهدم، ونقدم ثم نحجم، ونمشى فى طريق ثم نعود منه بخفى حنين وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.. خذ عندك مثلًا منذ ثورة يوليو.. سنعتبر أن قيام الثورة كان ضرورة محلية وإقليمية وعالمية.. كان هناك حماس كبير جدًا فى البداية واخترنا عدم الانحياز والتنمية على النمط شبه الاشتراكى.. بنينا السد العالى والألف مصنع والقطاع العام.. تم التوسع فى التعليم والصحة والتوظيف باعتباره حقًا للمواطن.. اخترنا أن تقود الدولة الاقتصاد وسرنا فى هذا الطريق لمدة خمسة عشر عامًا تقريبًا أو أقل أو أكثر قليلًا.. ثم حدثت النكسة ورحل جمال عبدالناصر.. جاء الرئيس السادات وأعلن أنه سيسير على طريق جمال عبدالناصر.. لكن النكتة قالت إنه سار على طريق عبدالناصر بأستيكة! أى أنه محا كل ما فعله جمال عبدالناصر.. بدأ السادات عهده بحبس كل رجال دولة عبدالناصر تقريبًا- وهذه خسارة بشرية لكوادر الدولة المصرية- تحالف مع الإخوان ومع المملكة العربية السعودية، اقترب بسرعة الصاروخ من أمريكا وطرد الخبراء الروس.. كانت له رؤية مضادة تمامًا وهذه ليست مشكلة.. المشكلة أنه هو أيضًا لم تتح له الفرصة لتنفيذ رؤيته.. فى الحقيقة لا توجد رؤية صحيحة ورؤية خاطئة.. توجد رؤية يتم تنفيذها للنهاية ورؤية يتم إجهاضها.. يمكن أن نعتبر رحلة نمو مصر مثل رحلة من القاهرة للإسكندرية.. يمكن أن تذهب فى سيارة «لادا» صناعة روسية وتصل فى ثلاث ساعات مع ألم فى فقرات العنق، ويمكن أن تذهب فى سيارة «شيفروليه أمريكية» فى ساعتين ونصف مع فاتورة بنزين كبيرة وصداع خفيف.. إلخ.. الفكرة أننا لم نكمل الطريق أبدًا من القاهرة إلى الإسكندرية! كنا مرة ننزل فى بنها.. ومرة ننزل فى طنطا.. ومرة نتشاجر فى قليوب.. الرئيس السادات كان صاحب رؤية حالمة وسابقة.. فعل منذ أربعين عامًا ما يفعله العرب الآن.. أراد أن ينضم للمعسكر الغربى ويحالف إسرائيل ويستعين بها فى التنمية.. اصطدمت رؤيته بعواطف المصريين الحادة والحارة والحارقة دائمًا، واصطدمت برؤية التيار الدينى الذى أطلقه وسمّْنه، وبرؤية الدول الإقليمية التى كانت تمول الإخوان فى مصر وتستخدمهم ضد كل حكامها، واصطدم برؤية التيار اليسارى الذى تخلى عن حلم التقدم لحساب المشاعر والمصالح المشتركة مع الإسلاميين- إلا من رحم ربى من اليساريين المحترمين- وهكذا رحل السادات دون أن يكمل رؤيته.. تمت إزاحته من المشهد قسرًا وعنفًا واغتيالًا، وجاء الرئيس مبارك ليدرك أن فى التأنى السلامة وفى الرؤية الواضحة الندامة.. وليدرك أن ميزته العظمى لدى الغرب ولدى الخليج أن يظل بلا رؤية وبلا مشروع وبلا خطر على أحد.. ويكتفى- رحمه الله- باستجداء القمح والبترول من الدول القادرة فى الغرب حينًا وفى الشرق حينًا مقابل السير فى المكان.. ومقابل ألا تكون مصر منافسًا لأى أحد أو خطرًا على أى أحد.. وفى مقابل ألا ننفذ لا رؤية عبدالناصر ولا رؤية السادات.. ألا نذهب للإسكندرية لا فى السيارة «اللادا» الروسية ولا فى السيارة «الشيفروليه» الأمريكية.. بقينا محلك سر.. نواصل المشى فى المكان حتى مل الناس وخرجوا يغيرون واقعا رثًا على كل المستويات باستثناء الدعم الذى يكفل حياة لا تشبه الحياة فى شىء.. قامت ثورة يناير وسرقها لصوص الثورات والإرهابيون ليعض المصريون بنان الندم على أنهم ثاروا ضد حالة «السير فى المحل» وسرعان ما تمالكوا أنفسهم وأدركوا أن عليهم إعادة البلد ممن سرقوه وانحاز الجيش للشعب وبدأ مخطط تنمية طموح لم يفعل سوى تنفيذ رؤية التنمية التى تم إجهاضها فى الستينيات مرة وفى السبعينيات مرة ثم حفظها فى ثلاجة أحلام الرئيس مبارك لمدة ثلاثين عامًا.. واجهتنا مصاعب بعضها طبيعى وبعضها مصطنع.. استكثر علينا البعض أن نحلم.. ووضع البعض أمامنا العراقيل وراهن البعض على خطيئة المصريين التاريخية وهى عدم الصبر وعدم القدرة على تحمل المكاره وسهولة الاستهواء.. إن أى نصاب سياسى يستطيع أن يقنع المصريين أنه المهدى المنتظر، وأى تافه عديم القيمة يمكن أن يصبح مرشحًا أو نقيبًا أو نائبًا إذا تاجر بأوجاع المصريين وأى مرشح ماريونيت يحركه غيره يمكن أن يقنع البسطاء أنه أبوزيد الهلالى سلامة وعنتر بن شداد معًا.. والنتيجة أننا خلال ٧١ عامًا.. وقبلها أيضًا لم نكمل طريقًا بدأناه أبدًا ولم ننفذ رؤية للتنمية حتى آخرها.. وربما كان هذا يتم بفعل فاعل وربما تقترفه أيدينا نحن المصريين.. لكن ما أعرفه أننا يجب أن نكمل خطتنا للتنمية هذه المرة لأن ما بعدها هو الطوفان والسقوط التاريخى الكامل وهذا ما لن يسمح به المصريون.. هكذا أظن.