تاريخ مصر بين العاطفة والعقل
حين أقرأ تاريخ مصر الحديث تسيطر علىّ فكرة ملحّة.. هذه الفكرة تقول إننا لن نصل إلى المستقبل إلا إذا أعدنا قراءة الماضى.. هذه القراءة يجب أن تكون بمنظور عملى واقعى وليس بمنظور عاطفى شعاراتى، كما هو الحال الآن.. القراءة المنصفة ترى مميزات كل شخص وعيوبه فى نفس الوقت.. أى أنها ترى الميزة والعيب فى الوقت نفسه.. من المهم أيضًا أن نرى الشخص نفسه بعدسة العيب والميزة وبعدسة التاريخ لا بعدسة أعدائه.. الخديو عباس الأول.. التاريخ يقول عنه إنه كان متعصبًا كارهًا لأسرته وأنهم قتلوه.. وهناك اتهامات أسوأ حول ميوله الشخصية.. لكن هذا التاريخ كتبه منافسوه من أسرة محمد على.. أبناء إسماعيل وتوفيق أو الفرع المنافس له.. كان عباس متعصبًا فعلًا ولكنه مد ثانى خط سكة حديد فى العالم بين السويس والقاهرة.. أو أسس لقناة سويس برية.. سبقت قناة السويس البحرية بسنوات.. إنجاز عظيم لا نذكره له لأننا غير مشغولين بتحية صاحب الإنجاز.. لدينا معايير أخرى للحكم على الأمور.. وغالبًا نحن نقرأ التاريخ كما يكتبه المنتصرون.. خذ عندك حاكمًا مصريًا أكثر عظمة هو إسماعيل باشا ابن إبراهيم العظيم.. من أين استقينا معلوماتنا عنه؟ من مصدر واحد هو مذكرات لورد كرومر المعتمد البريطانى فى مصر، وهى صورة أعاد إنتاجها كل الإنجليز الاستعماريين الذين كتبوا عن مصر مثل لورد ملنر وغيره.. هذه الصورة مفادها أن إسماعيل كان متلافًا مبذرًا أغرق مصر فى الديون.. ولكن الحقيقة أن إسماعيل كان مديرًا ناجحًا.. وأنه قبل أن يتولى الحكم كان أنجح مستثمر زراعى فى مصر، وأنه بنى القاهرة الخديوية التى نفتخر بها حتى الآن، وأنه حفر قناة السويس، وألغى السُخرة وتجارة العبيد، وفتح إفريقيا حتى أوغندا التى بنى مسجدًا فى عاصمتها، وأنه حصل على استقلال مصر عن طريق دفع المال للسلطان المرتشى بدلًا من طريق القوة العسكرية الذى أغلقته أوروبا أمام جده محمد على.. وكل هذا كفيل بأن يثير استياء استعمارى متطرف مثل لورد كرومر الذى كان مندوب بريطانيا فى صندوق الدين.. كان إسماعيل معتزًا بنفسه، وكان يرى أنه يستطيع سداد القروض، وكان من مصلحة الدول الأوروبية أن تعزله وتعيّن ابنه توفيق الضعيف والمحدود التعليم ففعلت، خذ عندك شخصًا ثالثًا.. أحمد عرابى باشا.. شخص وطنى عظيم عبّر عن غضب المصريين من التدخل الأجنبى.. لكنه للأسف لم يبذل الجهد الكافى لكى يوقف الأجانب عند حدهم بالقوة.. لم يكن متعلمًا، هزم الجيش تحت قيادته فى عشرين دقيقة فقط! مات ٢٤٠٠ مصرى فى التل الكبير فى ثلث ساعة والأسوأ أنه غادر أرض المعركة للقاهرة وأعلن استسلامه.. لا يمكن أن نشكك فى نواياه.. لكنها كارثة أن نخوض معاركنا على طريقة عرابى لأننا نحبه أو نقدره.. يجب أن نعرف عيوبه لنتجنبها ونعرف مميزاته لنحافظ عليها.. تعال ننتقل للضفة الأخرى ونقف عند «لورد كرومر»، إنه واحد من أكثر المؤثرين فى تاريخ مصر الحديث.. أرستقراطى أحمر الوجه ومتعالٍ.. لكنه سليل أسرة من أصحاب البنوك.. خبير إدارة ممتاز.. واستعمارى فاهم.. كانت علاقته بمصر مثل علاقة مدير شركة يكرهه مُلاكها والعاملون فيها.. لكنها تحقق أرباحًا تحت إدارته.. قال فى مذكراته إنه كان على يقين بأن الشعب لن يستجيب للحركة الوطنية بزعامة مصطفى كامل وإنها ستبقى فى إطار المثقفين.. لماذا؟ هو يقول إنه خفض الضرائب على الفلاح المصرى.. وإنه ليس من المنطقى أن يثور الفلاح ضد حكم يخفف الضرائب عليه! وجهة نظر يجب أن ندرسها ونتعلم منها.. أصلح «كرومر» نظام التعليم الابتدائى وأوجد نظامين له «التجهيزية» و «الابتدائية»، وقيل إنه حوّل مصر لمزرعة للقطن ملحقة بمصانع الإنجليز.. ولكن الحقيقة أن القطن كان سلعة استراتيجية تباع بالعملة الصعبة.. طبعًا كان له أعداء، خاصة أنه عنصرى ومعادٍ للمسلمين ويسميهم «المحمديين»، نسبة للرسول صلوات الله وسلامه عليه.. هو إجمالًا شخص كريه لكن هذا لا ينفى أنه كان صاحب إنجازات، فى نفس الفترة مثلًا سنجد أن مصر والهند كانتا تحت الاستعمار البريطانى، وأن الهنود فى البداية لجأوا للعنف ضد البريطانيين لكنهم فى نفس الوقت اغتنموا الفرصة للتعلم فى إنجلترا وذهبوا إلى هناك بالآلاف وتعلموا تعليمًا جيدًا لا شك أنه أساس نهضة الهند الحديثة.. المصريون فعلوا العكس، واعتبروا التعلم فى إنجلترا خيانة، وفضلوا السفر لألمانيا.. وهناك تركوا التعليم واشتغلوا بالسياسة والعمل السرى! على الأقل كان هناك عشرات الطلاب الذين رعاهم محمد فريد، زعيم الحزب الوطنى القديم، وكان منهم إبراهيم الوردانى ناصف الذى لم يكمل دراسة الصيدلة فى سويسرا وعاد ليغتال رئيس الوزراء بطرس غالى ١٩١٠، وكان منهم شفيق منصور المحامى الذى حكم عليه بالإعدام فى قضية سياسية أخرى، وكان منهم «عبدالخالق الدلبشانى» الذى حاول اغتيال سعد زغلول عام ١٩٢٥ وقال إنه يريد أن يحتل مكانه، فاعتبره الأطباء مجنونًا وتم إعفاؤه من العقوبة.. وهناك بالطبع مئات غير هذه الحالات، لا هم نفعوا مصر بعلمهم، ولا عملهم فى السياسة قد أضاف لها شيئًا وإلا لما كان الحال الآن «زمش» أو «زى ما انت شايف»، على رأى الكاتب الكبير محمود السعدنى.. بغير إعادة كتابة الماضى فى ضوء العقل والمصلحة لن نصل لشىء فى المستقبل رغم كل جهد صادق يبذل.. للأسف الشديد.