عيوب التجربة المصرية
ونحن على أبواب مرحلة جديدة من مراحل العمل الوطنى، أظن أننا يجب أن نتوقف ونتحدث بصراحة، إن علينا جميعًا أن نتأمل فيما أنجزنا- وهو كثير- وفيما أخفقنا فيه ونسأل عن أسباب هذا الإخفاق حتى نتجنبها فى قادم الأيام.. مطلوب أن نقدم كشف حساب بالإيجابيات وبالسلبيات أيضًا، لأنه لا شىء فى الحياة دون سلبيات وإيجابيات.. فالحياة تقوم على الثنائية..الخير والشر، النهار والليل، الروح والمادة، النجاح والإخفاق.. لذلك يقول الشاعر «ولكل شىء إذا ما تم نقصان».. والحقيقة أننا يجب أن نتحدث بصراحة عن أوجه النقصان فى تجربة النهضة التاريخية حتى نتلافاها فى قادم الأيام.. هل كان أحد العيوب مثلًا هو الرغبة الملحة فى الانتهاء من البناء بسرعة بالغة.. وارد جدًا، ولتقرأ معى هذه السطور التى كتبها خبير أجنبى أشرف على مشروع عظيم فى مصر.. إنه يقول «يريدون فى مصر أن يتحقق كل شىء بمجرد أن يقرروا ذلك، وينبغى أن ينفذ مهما كلف الأمر!، وكل الوسائل جيدة ما دام العمل يمضى بسرعة!، ولم يكن الهدف أن يكون العمل منجزًا متقنًا ومقاومًا للسنين.. بل ينبغى الاستمتاع به بأسرع ما يمكن ويضحى بكل شىء فى سبيل ذلك!».. قد تظن أن هذا النقد العنيف لعامل السرعة فى البناء مكتوب بقلم المهندس الذى بنى العاصمة الإدارية.. أو أشرف على حفر تفريعة قناة السويس! لأن الرئيس كان فعلًا يتعجل الانتهاء من المشاريع بأقصى سرعة ممكنة.. لكن المفارقة أن هذه السطور كتبها المهندس الذى أشرف على بناء القناطر الخيرية فى عهد محمد على باشا واسمه «لينون»، وقد ضمنها الكاتب «جيلبرت سينويه» فى كتابه «محمد على.. الفرعون الأخير» .. والمفارقة الأكبر أن القناطر الخيرية ما زالت صامدة حتى الآن.. وأنها تعمل على أروع ما يكون رغم مرور قرنين على بنائها تقريبًا، ورغم العجلة التى كان عليها محمد على باشا وهو يبنيها.. إنها إنجاز رائع.. أثبت الزمن فقط روعته وفائدته.. ولو أن أحدًا قرأ ما كتبه المهندس الفرنسى فى عام بناء القناطر الخيرية ١٨٣٢ لاستعاذ وحوقل واستعوض الله فى نفقات بناء القناطر التى يقول المشرف عليها نفسه إنها بنيت بكل هذا الاستعجال.. لماذا كان محمد على متعجلًا؟ أظن أنه نفس السبب الذى دفع جمال عبدالناصر والسيسى للاستعجال.. إن كلًا منهما أتى والبلد قد فاته الكثير والكثير وإن كلًا منهما شعر بأنه فى سباق مع الزمن، وإنه ليس لديه سلاح سوى سرعة الإنجاز.. ومع ذلك أنا من الذين يرون أن العجلة الشديدة فى البناء كانت أحد عيوب تجربة النهضة فى عهد الرئيس السيسى، وأنها دفعتنا للتخلى عن الحذر والإقدام على استخدام القروض الساخنة.. التى تم سحبها من السوق على حين غرة وفى ليلة وضحاها فحدث الارتباك، ولا أرى عيبًا فى أن نتحدث فى هذا، وأن نعترف بخطئنا.. ما دام الدافع كان نبيلًا، وما دامت الإنجازات ستبقى بعد عبور الأزمة، كما بقيت القناطر الخيرية حتى الآن رغم شكوى المشرف عليها من استعجاله فى بنائها.. هناك حاكم عظيم آخر وقع فى خطأ الاستعجال، ولكن إنجازاته بقيت صامدة وشاهدة.. نعيش فى ظلها حتى الآن.. هذا الحاكم هو الخديو إسماعيل وهو صاحب إنجازات عظيمة فى مجال الزراعة والرى والترع والبناء.. ولكنى سأتوقف عند مجال واحد سجله مؤرخو عصره، ومنهم القاضى «كيرتس» القاضى بالمحاكم المختلطة الذى ألف كتاب «إسماعيل المفترى عليه» عام ١٩٣٢.. لقد فكر هذا الحاكم العظيم أن يحول مصر مبكرًا جدًا إلى مركز لصناعة السكر.. أدخل زراعة قصب السكر إلى مصر، وأسس ثلاثة عشر مصنعًا حديثًا لقصب السكر فى صعيد مصر، فى وقت لم يكن الشرق الأوسط يعرف شيئًا عن أى شىء، أتى هذا الحاكم الطموح بمديرين أجانب للمصانع.. لكن التجربة فشلت.. لأن العامل المصرى كان يحتاج لفترة تدريب أطول قبل أن يتم الدفع به للتعامل مع ماكينات معقدة بالنسبة له، المجتمع كله لم يكن مؤهلًا لأن يصبح مجتمعًا صناعيًا.. لأن هذا يستدعى اختلافًا فى طرق التفكير وفلسفة الحياة وربط السبب بالنتيجة ونبذ التفكير الخرافى- لا توجد عجول مقدسة فى المجتمع الصناعى- لكل هذه الأسباب فشلت تجربة صناعة السكر.. لكن الخبر الجيد أن الفشل كان مؤقتًا.. مع الوقت نجحت التجربة وتم التوصل لطرق إدارة رشيدة وظلت المصانع أساسًا لصناعة السكر فى مصر حتى الآن.. لقد اتهم هذا الحاكم العظيم بالفشل.. لكنه وضع أساس كل الأشياء الناجحة فى حياة المصريين حتى الآن القناة ووسط البلد والمسرح والأوبرا وكل ما يشعر المصريون بأنه يميزهم عن غيرهم حتى الآن.. من المهم جدًا أن ندرس عيوب تجارب النهضة فى مصر الحديثة ونقارنها بمميزاتها، وأن ننظر لهذه التجارب بمعيار وقتها مرة.. وبمعيار وقتنا نحن مرة أخرى.. بمعنى أن نعرف ماذا بقى منها صامدًا بعد مرور عشرات السنوات مثل القناطر وقناة السويس والصناعات المختلفة.. لنعرف ماذا سيبقى مما نبنيه حاليًا بعد مرور السنوات.. مهم جدًا أن نقرأ تجربتنا الحالية فى ضوء تجارب النهضة المصرية المختلفة؛ لنفتح نقاشًا عامًا حول العيوب والمميزات وما بقى وما ذهب وماذا كانت البدائل إلا السرعة أو مزيد من السرعة.. نقاش يستحق أن نفتحه ونستغرق فيه بدلًا من عبث وسائل التواصل المتواصل!