أكبر من مجرد مطرب
أتابع عن قرب جهود الاحتفال بمئة عام على رحيل سيد درويش، وأخشى أننا حتى الآن لم نصل للشكل المناسب لإحياء ذكرى هذا العبقرى المصرى.. إن قصة سيد درويش تتجاوز كونه مؤسس الموسيقى المصرية الحديثة، أو صاحب مجموعة من الألحان التى تسكن وجداننا حتى الآن.. إن قصة سيد درويش هى قصة العبقرية المصرية الكامنة تحت طبقات التاريخ التى ما إن تتاح لها الفرصة حتى تتألق مثل جوهرة ثمينة وتخطف الأنظار.. إن موسيقاه تعبير عن روح مصر وموقعها بين الشرق والغرب، وجوهرها كملتقى للحضارتين الغربية والشرقية.. هذا اللقاء الذى صنع فرادتها على مدى القرنين الماضيين، والذى أرادوا أن يحرموها منه فغيّبوا عقلها خلف نقاب التخلف السميك.. فتى مصرى فقير من مواليد كوم الدكة لأب نجار وأم ربة منزل.. يذهب للمدرسة فيتعلم الموسيقى ويحب الغناء ويشترى كتابًا من مكتبة فيتعلم منه كتابة الألحان.. مثل كل أبناء جيله من الفقراء يلتحق بالأزهر ليتعلم أصول التلاوة والفقه والشريعة، ويتألق صوته وهو يشدو بالقرآن.. مثله مثل سعد زغلول ومحمد عبده، يجمع بين الثقافة الأصيلة والثقافة الغربية ليصنعوا معًا السبيكة المصرية والوصفة المصرية للنهضة فى بداية القرن الماضى.. يجمع هذا العبقرى بين الدراسة فى المعهد الدينى والاستماع لموسيقى الأجانب فى الإسكندرية، لا سيما موسيقى البحر المتوسط.. يبتكر طريقة فى التلحين تعتمد على صياغة الموسيقى الشرقية فى قوالب غربية حديثة.. يخلص الشيخ سيد موسيقى المصريين من الروح التركية الجاثمة على أنفاسها، ويودع الغناء على طريقة آمان يا للى... يسمع الشيخ سلامة حجازى عن عبقريته فيذهب له ويمنحه فرصة للغناء فى الاستراحة بين فصول مسرحياته.. لا يفهم الجمهور الموسيقى الجديدة التى يقدمها ويرفضونه فى البداية على عادة رفض كل جديد لا تألفه الأذن.. يعود هذا العامل الذى يحب الموسيقى للإسكندرية متمسكًا بفهمه للغناء وغير مبالٍ بالفقر الذى ولد فيه من الأساس.. منحه العمل فى المهن اليدوية والغرق فى حياة الصعلكة انفتاحًا على عوالم كان من المستحيل على من سبقوه فهمها أو دخولها.. كان الغناء الحديث قبله وليد الحياة فى القصور، وكان مطربوه محل رعاية مادية من الخديو إسماعيل المحب للموسيقى «ألمظ وعبده الحامولى مثلًا».. غنى سيد درويش لزملائه من عمال البناء، ولجرسونات المطاعم، وللعمال الذين يستيقظون فى الفجر ليبدأوا العمل، وللسيدات اللاتى أحبهن.. وبشكل عام كانت الحياة المصرية اليومية هى محور موسيقاه وأغانيه.. هربت الموسيقى من أسوار القصور التركية لتسير مع سيد درويش فى الشارع وأماكن العمل والمقاهى الرخيصة وتسلمه قيادتها دون أى تكليف.. كان ميلاده الحقيقى عندما التقى بديع خيرى وصاغ معه ومع نجيب الريحانى مرحلة جديدة من مراحل الأوبريت المسرحى والأداء الموسيقى بشكل عام.. مثل أى عبقرى لم يكن يشعر بأهمية ما يقدمه وقيمته، وإن كان شاع عنه اعتزازه الكبير بفنه وبنفسه.. شاع عنه أنه تعاطى مخدر الكوكايين الذى انتشر فى بداية القرن الماضى ولم يكن محرمًا قانونيًا فى البداية، والحقيقة أن حياته لم تكن تختلف عن حياة أقرانه من بسطاء المصريين.. لو صحت الشائعة فلسنا أمام فنان تعاطى المخدرات، ولكن أمام متعاطٍ للمخدرات اكتشف الناس عبقريته فى التلحين! كانت حياته مثل شهاب تألق وانطفأ بسرعة، لكنه ترك أثرًا يصعب محوه أو تجاهله.. كانت ألحانه هى الموسيقى التصويرية لأحداث ثورة ١٩١٩ حتى الآن، فلحن النشيد الوطنى المصرى ما زال يحمل توقيع سيد درويش.. لم يحبه عبقرى موسيقى آخر هو محمد عبدالوهاب، وشاع عنه أنه يسىء إليه، والأغلب أن الفارق فى أسلوب حياة كل منهما كان أكبر من قدرة عبدالوهاب على القبول.. سيد درويش هو مطرب عمال البناء والشقيانين وعبدالوهاب هو مطرب الملوك والأمراء.. أقرب الموسيقيين لروح سيد درويش البوهيمية هو بليغ حمدى، وللاثنين مكانة خاصة فى قلوب المصريين.. مات سيد درويش فى يوم عودة سعد زغلول من المنفى واضعًا كلمة الختام لثورة ١٩١٩، وكان درويش قد أدى مهمته على أكمل وجه ثم رحل.. يستحق سيد درويش حفلة تليق به تحت سفح الأهرامات يغنى فيها مطربو مصر جميعًا مجموعة من ألحانه.. أمثال سيد درويش هم الذين يصنعون ملامح مصر وتميزها عن محيطها، وتجاهل الاحتفال اللائق بهم يمنح الفرصة للطحالب أن تنمو على سطح الماء الراكد.. قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك.. قوم لنصرى نصرى دين واجب عليك.. هكذا غنى سيد درويش لروحه السلام.