الخدعة.. تفكيك الرواية الإسرائيلية حول «البطل» أشرف مروان
سقط أشرف مروان، صهر الرئيس جمال عبدالناصر، السكرتير الشخصى للرئيس أنور السادات، من شرفة منزله فى لندن فى عام ٢٠٠٧، فى ظروف لم تتضح بشكل كامل.. ليأخذ إجابة ما إذا كان عميلًا مزدوجًا، استطاع خداع إسرائيل وكان ولاؤه لمصر، إلى قبره.
وخلال الأيام الأخيرة، وقبل الذكرى الخمسين على حرب أكتوبر، نشر الموساد صورة لأحد ضباطه مع العميل الملقب بـ«الملاك»، الذى أعطى الاستخبارات الإسرائيلية، وفق المزاعم، تحذيرًا دقيقًا بأن الحرب على وشك اندلاعها، ونشرت وكالة الاستخبارات الإسرائيلية أيضًا نسخة من المحادثة بين رئيس الموساد، آنذاك، تسفى زامير و«الملاك».
إن مسألة ما إذا كان «مروان» عميلًا مزدوجًا هى مسألة أثارت قلق مجتمع الاستخبارات الإسرائيلية لعقود من الزمن، ويرى كثيرون، على رأسهم رئيس الاستخبارات العسكرية، إيلى زعيرا، أنه كان عميلًا مزدوجًا خدع إسرائيل، بينما يزعم الموساد، برئاسة تسفى زامير، أنه كان جاسوسًا مخلصًا لإسرائيل.
فى السطور التالية نستعرض بعض نقاط الضعف والثغرات فى الرواية الإسرائيلية بشأن رجل «أدى مهمته الوطنية» وفق ما تؤكده الوثائق المصرية.
الثغرة الأولى: قصة تجنيده قامت على تهميشه أيام عبدالناصر لكن الوضع تغير مع السادات
بدأت قصة أشرف مروان المثيرة للجدل عندما اتصل بالسفارة الإسرائيلية فى لندن فى عام ١٩٦٩، وعرض على مسئوليها تزويدهم بأهم الأسرار العسكرية لبلاده، وحاول الاتصال بالسفارة الإسرائيلية ٣ مرات قبل أن يؤخذ عرضه على محمل الجد.
حسب النشر فى الصحف العبرية، جاءت المكالمتان الأوليان فى أواخر عهد عبدالناصر، بينما جاءت المكالمة الثالثة، التى تم تجنيده على أثرها، بعد شهرين من وفاة الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر.
بالنسبة للنظرية السائدة فى الموساد، فإن حالة «الدخول» لـ«مروان» تزيد الشكوك فى كونه عميلًا مزدوجًا، فالافتراض عندما يتقرب مصدر على أعلى مستوى، مثل «مروان» الذى كان مقربًا من الرئيسين عبدالناصر والسادات، بكل ما لديه من معلومات خطيرة يستعد لمقايضتها، يمكن اعتباره «طُعمًا»، ويزيد وزنًا إلى نظرية كون الجاسوس عميلًا مزدوجًا. ولهذه القصة كانت هناك حبكة.
قدم أشرف مروان نفسه إلى الموساد كرجل ساخط على والد زوجته «عبدالناصر» الذى همّشه ومنحه منصب صغيرًا فى الرئاسة، وكانت صورته أنه رجل مستهتر يحب حياة الترف والبذخ، ويلهو فى الحياة الليلية فى لندن، وكل هدفه جمع الأموال لتناسب الحياة التى يريد أن يعيشها، غير أن قصة «مروان» لاحقًا تؤكد أنه كان أبعد عن ذلك وأكثر من كونه مجرد رجل يبحث عن الترف، بل رجل استطاع أن يكون أعظم جواسيس العصر الحديث.
القصة التى قدم «مروان» نفسه بها إلى الموساد تثير الشكوك، وبها ثغرة، خاصة أن السادات ساعده على الترقى داخل الرئاسة حتى أصبح سكرتيره الخاص، وفى الوقت نفسه فإن سخط «مروان» على عبدالناصر لا معنى له، لأنه بعد أن اتخذ مكانًا بجوار السادات لم يعد لديه دافع حقيقى لخيانة بلده.
وعلى الرغم من أن محاولتىّ «مروان» الأوليين للاتصال بالإسرائيليين «اللتين تجاهلوهما» كانتا فى عهد عبدالناصر، إلا أن المحاولة التى تم تجنيده فى أثرها كانت فى عهد السادات، فلماذا يقدم على المحاولة الثالثة بعد أن تغيرت الأحوال وحصل على المكانة التى كان يطمح لها ولم يمنحه «عبدالناصر» إياها؟!
القصة التى قدمها «مروان» صدقها الإسرائيليون، حيث يتذكر اللواء أهارون فركاش، الذى كان مديرًا للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية: «لقد كان ذلك شيئًا لا يصدق بالنسبة لنا»، وأضاف: «فى عملنا الاستخباراتى نحن متشككون للغاية بشأن كل شىء، لذلك كنا نطرح أسئلة صعبة حول كل ما أحضره. وبعد سنوات أدركنا أن هذه قطعة من الذهب».
الثغرة الثانية: جرأته فى التواصل مع الموساد تتناقض مع خطورة ما يقوم به
حسب الرواية الإسرائيلية، وما صرّح به المؤرخ الإسرائيلى أهارون بريجمان، وهو الذى كشف لاحقًا شخصية «مروان» فى كتابه «حروب إسرائيل»، والذى أدى فى نهاية المطاف إلى موته-فإن «مروان» كان يقيم اجتماعاته مع عملاء الموساد فى لندن مستخدمًا سيارته التابعة للسفارة المصرية فى لندن، وكان يتصل بهم هاتفًيا دون غطاء أو مناورات، رغم علمه أن خطوط الهاتف قد تكون مراقبة من قبل الاستخبارات البريطانية.
فهل هذا منطقى؟ أن يكون جاسوسًا مقربًا لرئيس الجمهورية ويخون بلاده، ويلتقى مشغليه بهذه الجرأة والعلانية؟ ما الذى يجعله بهذه الجرأة؟ لا يوجد سبب إلا أن يكون مجنونًا أو يكون المصريون على علم بكل تحركاته.
الثغرة الثالثة: بناء الثقة تم على النمط السوفيتى.. وسر سبب تزويده بمعلومات تعمى مشغليه
عندما دخل «مروان» المقهى فى لندن لمقابلة رجل الموساد لأول مرة كان يعلم بالتأكيد أن خدماته ستكون مطلوبة، ولكن الأهم بالنسبة له كان بناء الثقة، وكان الموساد بالفعل يشك فى نواياه، فكيف تبنى الثقة فى أحد أفضل أجهزة المخابرات فى العالم؟
لا يوجد طريق إلا أن تقدم لهم أفضل المعلومات التى تخدم غرضك، والتى «تعميهم» عن الحقيقة.
وهذه هى الإجابة عن سبب تزويد «مروان» بمعلومات دقيقة عن مصر، حيث قال أحد ضباط الموساد المشرفين على عمليته: «إن مادة مثل هذه من مصدر مثل هذا هى شىء يحدث مرة واحدة كل ألف عام»، فيما وصف عميل آخر للموساد الوضع: «كما لو كان لدينا شخص ينام فى سرير ناصر».
«المعلومات القيمة» هى الذريعة التى استخدمها البعض فى إسرائيل لإثبات أن «مروان» لم يكن مزدوجًا، ولكن ما يمكن رؤيته أيضًا أن تجنيد «مروان» من قبل مصر كعميل مزدوج تم على النمط «السوفيتى»، حيث يزود العميل هدفه بمعلومات صحيحة بنسبة ٩٥٪ قبل تقديم بيانات خاطئة فى نقطة حيوية.
فى سجلات الجواسيس لإسرائيل أين ترتيب «مروان»؟ سُئل أحد كبار ضباط المخابرات الإسرائيلية، أهارون ليفران، الذى أجاب: «لقد كان الأفضل.. لقد كان الأفضل».
الثغرة الرابعة: التحذير «الوهمى» من الحرب قاد إلى تضليلهم حول بدء الهجوم الحقيقى
الثغرة الرابعة، التى ترجح أيضًا فكرة أن «مروان» كان عميلًا مزودجًا، هى تحذيراته بشأن حرب أكتوبر، إذ حذر «مروان» مرتين من حرب وشيكة لكنها لم تحدث، فى نهاية عام ١٩٧٢ وفى أبريل ١٩٧٣.
وبعد التحذير الثانى، أعلن الجيش الإسرائيلى حالة التأهب التى يسمونها «الأزرق والأبيض»، وتم تجنيد جنود الاحتياط، ويقال إن حالة التأهب كلفت إسرائيل حوالى ٣٥ مليون دولار، ثم لم يهجم الجيش المصرى، وفى إسرائيل تساءلوا: إذا كان فعلًا من الدائرة المقربة للرئيس السادات فكيف يخطئ مرتين؟ وكانت الإجابة هى أن «مروان» نفسه تم تضليله من قبل السادات، أو أن مروان نفسه كان جزءًا من هذه الخدعة.
ولهذا، عندما حذرهم للمرة الثالثة لم تؤخذ تحذيراته على محمل الجد، كما أن التحذيرين الكاذبين أديا إلى تآكل الخوف الإسرائيلى من الهجوم، لذا عندما حذر «مروان» مرة أخرى عشية الحرب الحقيقية كان الجيش الإسرائيلى بطيئًا فى الرد، فى إسرائيل يقولون إن «مروان» فعل مثل قصة الولد الذى صرخ «الذئب.. الذئب».
سؤال واحد لا إجابة له فى أى من مئات الآلاف من الأوراق التى سمح بنشرها: «كيف تمكن الرئيس أنور السادات من إقناع إسرائيل أكملها، جيش كامل، استخبارات كاملة، على الرغم من أنهم رأوا مئات الآلاف من الجنود المسلحين والدبابات والمدافع والمعدات- بأنه لن يحارب؟ ولهذا لم يصدقوا تحذير «مروان» الذى كان جزءًا من الخطة. يوم ٥ أكتوبر كان الجزء الأكبر من الخدعة، عندما اتصل «مروان» بالإسرائيليين وطلب لقاءً عاجلًا، وقال فى الهاتف إنه يريد «مناقشة الكثير من المواد الكيميائية»، وهو الكود المتفق عليه مع الموساد بأنه عبارة رمزية تعنى التحذير من الحرب الوشيكة. وعند لقائه عميل الموساد فى لندن، أبلغه بأن الجيش المصرى سيهجم غدًا عند غروب الشمس، وهو الذى كان فى حوالى الساعة السادسة مساءً.
وفى الساعة الثامنة من صباح اليوم التالى، اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلى فى جلسة طارئة، وكانت هناك شكوك حول جدية معلوماته، بينما بدأ الهجوم قبل الموعد الذى أعطاه «مروان» بأربع ساعات، فى الساعة الثانية بعد الظهر.
وعلى الرغم من أنه لم ينبّه الموساد الإسرائيلى إلا قبل ٢٤ ساعة من الغارة، كان من الواضح أن وضع خطة عسكرية إسرائيلية فى مثل هذه المهلة القصيرة سيكون أمرًا صعبًا، وهذا كل ما أراده السادات، وقتًا كافيًا لعبور القناة وتجاوز خط بارليف، واسترداد جزء فى الضفة الشرقية، وإلحاق أكبر قدر من الخسائر بإسرائيل، وضرب ثقتهم بأنفسهم حتى يجلسوا إلى طاولة المفاوضات. الموساد الإسرائيلى رأى أن معلومات «مروان» كانت مصيرية، وأنه لم يعلم بتقديم موعد الهجوم «من السادسة مساءً إلى الثانية ظهرًا»، فيما رأت الاستخبارات العسكرية أن «مروان» كان يقصد تضليل الإسرائيليين، بيد أن أربع ساعات هى كل ما يحتاجه المصريون لتحقيق النصر. التفسير هو أن الإسرائيليين يعلمون أن هناك مصريين وسوريين على الأرض يحشدون قواتهم، وكانت هذه القوات بالفعل فى الجبهة تتخذ مواقع هجومية، فهى حالة كلاسيكية فى الكتب «لقد حصلت على كل المعلومات لكنك قمت بتفسير خاطئ»، والمتغير الوحيد المختلف هو أشرف مروان. سبب وصول تحذير «مروان» بموعد متأخر إلى هذا الحد ليس له إجابة قاطعة فى الكتاب الذى أصدره الموساد مؤخرًا، رغم أن مؤلفيه يقتنعون بأن «مروان» لم يكن عميلًا مزدوجًا، وبالنسبة لهم فإن مثل تلك التحذيرات الواضحة بشأن الاستعداد للحرب، كما أطلقها «الملاك»، لا تتفق مع المعلومات التى يتم تسريبها عمدًا من قبل دولة منخرطة فى الاستعدادات لحرب مفاجئة. وعندما سأل أهارون بريجمان، المؤرخ الإسرائيلى، «مروان» عن سبب تصريحه بأن الجيش المصرى سيهاجم فى السادسة مساء لكنه قام بالهجوم فى الثانية ظهرًا، أجاب «مروان» بابتسامة: «وماذا تعنى بضع ساعات بيننا؟»، قال «بريجمان»: «لقد كان تأكيدًا واضحًا من مروان أنه خدعنا».
هناك من يقول إن السادات علم بخبر تسريب الهجوم إلى إسرائيل من مصدر آخر فى الأردن، فكان يريد تعزيز موقف «مروان» بأن يمنحهم معلومة هى لديهم مسبقًا «على الطريقة السوفيتية»، وأن التضليل حول موعد الهجوم سيكون كافيًا للجيش المصرى، وبسبب هذ أصبح «مروان» رصيدًا لا يقدر بثمن بالنسبة لإسرائيل فى عام ١٩٧٣، والذى استمر نشاطه إلى الثمانينيات. والمؤكد أنه من الصعب أن تعترف إسرائيل بشكل رسمى وتتفق تياراتها حول أن مروان كان عميلًا مزدوجًا، فهذا سيكون بمثابة اعتراف رسمى بالفشل، وبأن مروان استطاع خداعهم على الرغم من كفاءتهم الاستخباراتية، ولكن كيف حدث ذلك؟
الإجابة المبسطة تكمن فى «الثقة» التى استطاع مروان أن يكتسبها، وسيول المعلومات المثيرة التى جعلتهم لا يميزون الحقيقة من الخدعة، والتى جعلت كبار ضباط الاستخبارات مدمنين على تقارير «مروان»، والتى بدلًا من أن تجعلهم يزيدون شكوكهم أقنعتهم بأن لديهم كنزًا.