بين المتاح والمطلوب
دائماً ما كنا نتناول قضية الزيادة السكانية فى مصر من خلال رؤي مختلفة، منها ما هو اجتماعى أو أمنى أو اقتصادى، ولذلك فإننا عندما نتحدث اليوم مرة أخرى وليست الأخيرة فإن ذلك يأتى فى إطار متابعتنا مؤتمر السكان العالمى، الذى يعقد بالبلاد حالياً، فى محاولة للوقوف على ما سوف يسفر عنه هذا المؤتمر من توصيات ومعرفة الآليات التى سوف تبذل لتحقيق تلك التوصيات، وهل هناك أفكار جديدة تم طرحها خلاله أم سوف تكون نتائجه تقليدية كالاكتفاء بالدعوة والمناشدة فقط أو وضع استراتيجيات يصعب تنفيذها؟.
منذ 29 عاماً، وتحديداً عام 1994، استضافت مصر مؤتمر السكان والصحة العالمى وكان عدد سكانها حوالى 60 مليون نسمة، واليوم تستضيف ذات المؤتمر وقد بلغ عدد سكانها 113 مليون نسمة، بما يعنى أن عدد سكان مصر قد زاد خلال هذه الفترة حوالى 53 مليون نسمة وأصبحت تحتل المرتبة 14 من دول العالم الأكبر من حيث عدد السكان... هل لك أن تتخيل أن عدد سكان مصر زاد خلال 30 عاماً فقط أضعاف الزيادة فى 6 دول أوروبية مجتمعة، وهى إنجلترا وفرنسا وألمانيا والسويد والدنمارك والنرويج؟ هل لك أن تتخيل أن دولة كبرى مثل ألمانيا زادت 11 مليون نسمة فى خلال 60 عاماً، وأن إنجلترا زادت خلال هذه الفترة 15 مليون نسمة، فى حين أن مصر زادت خلالها 86 مليون نسمة؟ وذلك رغم اختلاف وقلة مواردنا وأوضاعنا وظروفنا التى مرت بها مصر وبين موارد تلك الدول التى لم تعانِ من ويلات الحروب والإرهاب والأوضاع الاقتصادية الصعبة.
من الواضح أن جميع الإجراءات الاحترازية والتوعوية التى قامت بها جميع أجهزة الدولة ذات الصلة بالقضية السكانية لم تؤتِ ثمارها ولم تحقق النتائج المرجوة منها، وهو الأمر الذى دفع بالرئيس عبدالفتاح السيسى إلى إسناد رئاسة المجلس القومى للسكان فى المرحلة الحالية إلى رئيس الوزراء؛ لتفعيل الاستراتيجية التى تهدف إلى تحقيق التوازن بين السكان والتنمية من خلال تعزيز الصحة الإنجابية، ورفع الوعى بالقضايا السكانية، وتحويل مشروع تنظيم الأسرة إلى مشروع استثمارى يحقق أرباحاً للعائلات والأسر المصرية، لأن القضية أصبحت جد خطيرة للغاية وتشكل ضغطاً دائماً على تحقيق التنمية والخدمات التى تقدمها الدولة للمواطنين.
تابعت كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى بداية هذا المؤتمر، والتى من الممكن أن أصفها بأنها "صيحة إنذار" يجب أن يصل صداها للجميع وأن نعمل جميعاً على مواجهتها.. فالزيادة السكانية غير المنطقية تلتهم أى معدلات للتنمية فى مصر مهما اتخذت الحكومة من إجراءات للحد من هذه الزيادة، كما أنها تعرقل محاولات النمو الاقتصادى الذى تسعى الدولة إلى تحقيقه، وبالتالى تؤثر على مستوى معيشة وحياة المواطن المصرى وتجعله لا يشعر بأى انفراجة فى حياته، وبالتالى تدفعه إلى الشكوى الدائمة من ارتفاع الأسعار وقلة الموارد وصعوبة الحياة، وجميعها نتائج تتلقفها قنوات الشر وأبواق الدعاية الكاذبة التى تهدف إلى إحداث الوقيعة بين الشعب وحكومته وتعمل على التأثير السلبى للرأى العام فى الشارع المصرى.. وقد استوقفتنى عبارة من حديث الرئيس استشعرت خلالها بحجم المعاناة والضغوط عليه، وهو الذى يسعى جاهداً للخروج بنا من الأزمات الاقتصادية التى تمر بنا، وذلك عندما قال: "أصعب حاجة بتمر عليا إن أبقى عارف إن المطلوب حجمه قد إيه وإن المتاح أقل بكتير".
وهناك بعض المحطات التى توقفت عندها فى كلمة الرئيس السيسى، أبرزها: أن ما حدث فى 2011 وتحرك الشعب للمطالبة بالتغيير كان من منطلق أن الدولة أصبحت غير قادرة على تحقيق مطالبهم وتلبية احتياجاتهم، والحقيقة أن قدرات الدولة فى هذا التوقيت لم تكن تستطيع أن تلبى لهم ذلك، وقد استغل أعداء الوطن ذلك وقاموا بإضرام النار وإشعال الفتن إلى أن حدث ما حدث مما ترتب عليه تكبد الدولة خسائر وصلت إلى 400 مليار دولار فى وقت كنا فيه أحوج الحاجة إلى أى دولار.. لقد كان هناك ارتباط بين عجز الدولة عن تلبية الاحتياجات وبين الزيادة السكانية وأحداث 2011، وأن تلك الزيادة لو لم تكن موجودة ما كان حدث ما حدث من انهيار وخسائر غير مسبوقة تعرضت لها الدولة المصرية... وهنا كان من المهم الربط أيضاً بين ما حدث فى 2011 وبين أهمية تحقيق الاستقرار والأمن كجزء أصيل ومهم فى تنمية الدولة وأن هذا لن يتأتى على ضوء عجز أى دولة عن تلبية احتياجات مواطنيها، فتبدأ أبواق الضلال فى ممارسة أدوارها لتحقيق أهدافها لزعزعة استقرار الدول.. كما نرى زيادة معدلات الجرائم سواء كان ذلك لأسباب اجتماعية أو جنائية.. كما تزداد معدلات محاولات الهجرة غير الشرعية التى تهدد الدول المستقرة وتتسبب فى إحداث القلق والتوتر بين شعوبها، ناهيك عن حالات الغرق والموت التى يتعرض لها معظم من يقوم بتلك الرحلات التى يطلق عليها "رحلات الموت".
إن الزيادة السكانية فى الوقت الراهن أصبحت بالفعل تشكل هاجساً وتحدياً للدول على اختلاف أنظمتها، سواء المتقدمة أو النامية، حيث تجاوزت المشكلة السكانية الحدود الإقليمية إلى العالمية وأصبح لزاماً على المجتمع الدولى مواجهتها والتصدى لها كونها تلتهم ثمار التنمية، فضلاً عما تسببه من ضغوط على سوق العمل والطاقة الاستيعابية للنشاطات الاقتصادية، وهو ما يجعلها أحد التحديات الرئيسية للدولة المصرية.. ولعل من أبرز مخاطر الزيادة السكانية فى مصر زيادة نفقات الدولة على الدعم ومعدلات الإنفاق وانتشار ظاهرة البطالة وارتفاع الأسعار وانهيار المرافق العامة وانتشار الجرائم بسبب البطالة وحاجة الشعب إلى الدخل، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق على الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والمواصلات والإسكان والحماية الاجتماعية والأمن، وهو ما يترتب عليه عجز الدولة عن توفير تلك المتطلبات بالكفاءة والجودة المطلوبة لتحقيق الحياة اللائقة بهم.
لقد أصبح من اللازم البحث عن حلول جديدة وغير تقليدية للمشكلة السكانية قد تساهم بشكل أو بآخر فى التعامل مع هذه القضية الشائكة والممتدة على مدى سبعين عاماً، حاولت فيها الحكومات المتعاقبة مواجهتها والحد منها ومحاولة إقناع الأسر المصرية بضرورة العمل على تنظيم النسل، وكما ذكرنا لم تتحقق النجاحات المرجوة منها.
بمراجعة تجارب بعض الدول التى تعانى من ذات المشكلة، وجدنا أن الصين على سبيل المثال تعاملت مع تلك القضية بصورة غير تقليدية بالفعل، حيث وضعت خططا حاسمة منذ السبعينيات وفرضت طفلاً واحداً فقط لكل أسرة على مدى عدة سنوات، ونجحت بالفعل فى ضبط الزيادة السكانية مع نسبة النمو بمرور الوقت، وسمحت بزيادة الأبناء إلى اثنين أو أكثر، ولو لم تفعل ذلك ما كان يمكن للصين أن تحقق الوضع الاقتصادى الحالى مع وصول عدد سكانها إلى ما فوق المليارين.. ومن هنا فإن الوضع فى مصر أيضاً أصبح يتطلب برامج مماثلة تتعامل مع الواقع الاجتماعى، وهو ما أشار إليه الرئيس عدة مرات، مع زيادة حملات التوعية على أن تتضمن مزيجاً من التوعية الاجتماعية والصحية والدينية والمزج أيضاً بين برامج التوعية والتشريعات والحوافز.. وقد طلب الرئيس دفع جهود المجلس القومى للسكان لمواجهة الزيادة السكانية كما سبق أن أشرنا، عندما أسند مسئوليته فى الوقت الراهن إلى رئيس الوزراء، علاوة على ضرورة مشاركة رجال الدين الإسلامى والمسيحى لما لهم من تأثير مباشر فى مواجهة الأفكار المغلوطة التى تدفع إلى زيادة النسل وكثرة الأطفال.. وفى تصور آخر للرئيس، أحسبه من الأفكار التى يجب دراستها والتعامل معها بجدية واحترافية، وأعنى به اقتراح سيادته بالتنسيق للهجرة الشرعية إلى الدول الأوروبية التى تعانى من أزمات فى الأيدى العاملة، خاصة فى الأعمال التى تعتمد على العنصر البشرى بصفة أساسية، حيث من الممكن التنسيق مع الوزارات المعنية فى تلك الدول مع نظيرتها فى مصر للاستفادة من القوى العاملة بها، وإبرام تعاقدات رسمية لهم للعمل بتلك الدول مثل نظام الإعارة والتعاقد للمدرسين والأطباء المصريين لعملهم بدول الخليج على سبيل المثال.
أتمنى أن يخرج هذا المؤتمر العالمى للسكان بنتائج وتوصيات يكون من شأنها التعامل بجدية مع تلك القضية، خاصة ونحن مقدمون على مرحلة تاريخية صعبة ليس على مصر وحدها بل على معظم دول العالم.
إننا مطالبون جميعاً بالمشاركة فى مواجهة تلك القضية.. وللحديث بقية.. تحيا مصر.