كنز مصرى فى وسط البلد
أى حاجة قديمة لها ريحة.. وأكاد أجزم بأن لها طعمًا أيضًا.. تسرنى تلك الطرز المعمارية القديمة، سواء فى بيت ريفى قديم، أو فى قصر من قصور أعيان مصر التى لا تزال شامخة تعاند الزمن وعوامل الطبيعة.. وكلما تصادف أن ذهبت إلى مكان من هذه الأماكن شعرت بأننى فى عالم غير العالم ودنيا غير الدنيا.. لا تأسرنى الزخارف الكثيرة ولا دلالات الثراء، وإن سحرنى فن الصانع وشدة مهارته وخياله فى التعامل مع الخامات المستخدمة.. خشبًا كانت أو طينًا أو فخارًا.. مهارة الفنان هى أكثر ما يطربنى فى هذه المبانى.
هذا الأسبوع قادتنى الصدفة إلى أحد هذه الكنوز.. ربما يمر الكثيرون إلى جواره يوميًا ولا يشعرون به أو بقيمته.. موقعه إلى جانب مبنى التأمين الصحى وصيدلية الإسعاف من ناحية ومسرح جلال الشرقاوى من ناحية أخرى- يجعل وجوده فى هذا المكان أمرًا مستبعدًا.. وجود الباعة الجائلين ببضاعتهم من الجوارب والمشغولات الرخيصة والعطور الرخيصة لا يدل إطلاقًا على وجود مبنى ومعنى فريد بالقرب من كل هذه الفوضى.. لكنه هناك.. مبنى عتيق لا يكشف عن كنوزه إلا للقادمين إليه وحده.. شكله الخارجى بقبته المدورة يجعله أقرب إلى مسجد.. هذا ما ستظنه لو نظرت إليه بشكل جانبى، وأنت فى اتجاه سنترال رمسيس.. إنه معهد الموسيقى الملكى.. الذى تمر هذه الأيام مائة سنة بالتمام والكمال على وقائع افتتاحه.
مبنى معهد الموسيقى فى رمسيس.. بدأت عملية الشروع فى إقامته عام ١٩١٤.. ليصبح ناديًا للموسيقى الشرقية.. ثم سرعان ما تطور الأمر ليصبح معهدًا لتعليم فنون الموسيقى، بعد أن منحته الحكومة المصرية قطعة أرض ليُبنى عليها المعهد.. وجاءوا بمصمم إيطالى شاركه مهندس مصرى اسمه فرج أمين، ليتم افتتاحه فى حفل مهول حضره الملك فؤاد، وغنى فيه عبدالوهاب.. واستمر الحال حتى عام ١٩٧٧ لتنتقل الدراسة إلى مبنى الكونسرفتوار فى الهرم.. ويتحول هذا المبنى البديع، الذى يضم مسرحًا مدهشًا لم أشاهد مثله فى باريس أم الفنون، إلى متحف.. المسرح يتم استغلاله لإقامة بعض الحفلات، خاصة وقد انتقلت تبعيته إلى دار الأوبرا.. ويوجد بين قاعاته المتعددة متحف لمقتنيات عبدالوهاب ومكتبة موسيقية ومتحف للآلات وقاعات تدريب، لتعليم بعض فنون العزف للراغبين من الموهوبين فى بلادنا برسوم رمزية.
لا أعتقد أن مبنى بكل هذه الفخامة وكل ذلك التاريخ.. فقد مر عليه الكثيرون من رواد الموسيقى فى بلادنا عبر تلك السنوات الطويلة.. أقول لا أعتقد أنه مستغل الاستغلال الذى يليق به.. لقد تم ترميم المبنى على يد مبدعين مصريين منذ عشرين سنة تقريبًا.. لكن طيلة هذه السنوات العشرين لم ندرِ شيئًا عن هذا المكان البديع.. وأعتقد أنه فى ظل ما يجرى من تطوير للمنطقة المحيطة به لا بد من وضع هذا المبنى فى الاعتبار سواء من ناحية المدخل وواجهة المبنى التى لا تدل عليه إطلاقًا.. أو من ناحية إعادة استغلاله بشكل مختلف.. أتمنى لو أن كليات الآثار فى بلادنا ذهبت بطلابها لزيارة هذا الموقع فى رحلات علمية.. أتمنى لو أن وزارة السياحة وضعته فى جداول زيارات السياح.. فالسياحة الثقافية أمر معروف فى العالم كله.. لقد شاهدت بعينى آلاف المصريين وهم يتوافدون إلى محكى القلعة لمشاهدة حفلات المهرجان المقام حاليًا.. مصريون وعرب مبهورون بكل ركن هناك.. ومنطقة وسط البلد بكل تفاصيلها حتمًا بعد تطويرها ستصبح مقصدًا للعرب والأجانب ولأولادنا أيضًا.. وأظن أن مبنى معهد الموسيقى لو أعدنا التفكير فيه بما يناسب قيمته الفنية والمعمارية سيكون أحد معالم وسط البلد.