الحنين إلى دمشق
منذ أيام فى افتتاح مهرجان محكى القلعة الدولى للموسيقى والغناء، كان الجمهور المصرى فى ساحة المسرح أو أمام الشاشات التى تنقل حفل الافتناح للعالم أجمع على موعد مع ساعات متوقعة من البهجة والونس مع أغنيات مدحت صالح.. هذا ما كنت أعرفه وأتوقعه.. لكن ما لم يكن فى بال أحدنا هو ما حدث قبل ذلك بقليل.
كان الحضور بالآلاف ولا يجد مقعدًا خاليًا، فوقف الكثيرون منهم فى حالة سرور مدهشة وسط أجواء تاريخية أسطورية فى ليلة تاريخية داعبها هلال مصرى فى سماء الساحة؛ حتى أطلت مطربة نحيلة لهجتها غير مصرية استقبلها الجمهور بحرارة أدهشتنى، خاصة أنها مطربة غير معروفة بالنسبة لى ولمعظم الجالسين بجوارى.. فما الذى حدث؟.. دقائق قليلة والتحم هذا الجمهور مع المطربة وفرقتها وهاج المسرح وهى تحيى الجمهور والحاضرين باسم سوريا.. الآن فقط عرفت أنها مطربة سورية شابة، وتذكرت أنها سبق لها الغناء فى مصر ولكن فى دار الأوبرا.. المطربة الشابة التى تغنى بالفصحى قصائد منتقاة بعناية وتجيد غناء سيد درويش ومحمد عبدالمطلب وشادية ومنير بأسلوب عربى متمكن وجديد تمامًا جاءت الجالية السورية فى مصر لتساندها بشكل مدهش.. وهذا طبيعى جدًا.. لكن أن يقف الجمهور المصرى أكثر من ساعة يطلب منها غناء الحنين إلى سوريا هذا ما أدهش الكل.. حالة من الحنين والفرح بكل كلمة جاء فيها ذكر هذه القطعة الغالية من وطننا العربى سيطرت على شباب الحفل ومنحته حيوية وحضورًا إضافيًا ومبدعًا.. وأعادت إلى أذهان الكبار منا أيام وجود مطربى الشام الكبار فى مصر.. وديع الصافى وفهد بلان وموفق بهجت ونجاح سلام، وغيرهم.. تلك الأجواء العروبية الخالصة التى سيطرت على مَن كانوا فى الحفل أعتقد أنها لم تكن بعيدة عن الحاضرين أمام الشاشات أيضًا.. علاقة المصريين بأهل سوريا مركبة.. وصلبة.. ولا يمكن لمن أراد فى يوم ما إفسادها أن ينجح فى ذلك.
أسمع كثيرًا من شباب وكبار يعيشون بجوارى فى حى شعبى قاهرى، وفى أماكن كثيره غيرها، أباطيل يرددها البعض أحيانًا عن الجاليات العربية الموجودة فى مصر لكن سرعان ما يتغير الموقف إذا ما جاءت سيرة أهل سوريا.. ساعتها يصبح الحديث عن ذوقهم ومعاملتهم الراقية وعن نظافتهم وشطارتهم فى أعمالهم وكيف نجحوا فى سنوات غربتهم هنا فى افتتاح مشاريع صغيرة أغلبها فى مجال المطاعم والحلويات وتجارة الأقمشة.. كيف استطاعوا كسب ثقة الزبون وقبلها محبة كل مَن تعامل معهم.. تلك اللهجة الودود التى يتعامل بها أهل سوريا هنا فى القاهرة فتحت لهم قلوب المصريين.. لكن هناك سرًا أكبر من هذه اللهجة.. ذلك الجسر الممتد منذ سنوات طويلة ربما تسبق الوحدة التى لم تدم طويلًا فى زمن عبدالناصر.. هناك شعور خفى لدى أبناء البلدين بأن مصيرهم واحد.. وأن دمهم واحد.. وأن ما يجمع بينهم أكبر بكثير من كل تلك الكتابات التى سجلتها كتب التاريخ.
هذا ما أشعر به وأعرفة جيدًا ولم أكن فى حاجة إلى صوت المطربة وفا يونان، ضيفة مهرجان القلعة، لتذكرنى به.. لكن يبدو أن الملايين من شباب الجيل الجديد يحتاجون إلى ذلك وإلى ما هو أكثر منه.. ما فعله الاستعمار الذى تغيّر شكله الآن وتغيّرت أشكال وأساليب ألاعيبه لم يتوقف لحظة عن حلمه فى طمس هذه الهوية العربية وتمزيقها.. يعرف الكثيرون من الأصدقاء احتمائى بهويتى المصرية، لكن هذا لا يعنى على الإطلاق أى تعرض مع ذلك الشعور القومى العربى.. لغة المصالح التى غلبت وتغلبت حتى صارت عنوانًا لكل عمل دبلوماسى وسياسى فى السنوات الأخيرة تدهسها.. وتلغيها وتمحوها فى لحظة أغنية.. أو مقطع فى مسلسل عربى قديم لأسامة أنور عكاشة وهو أحد المتشددين الكبار فى بحث هوية مصر وجذورها.
الآن يتشكل عالم جديد لا شك.. الآن على الأرض يتم رسم خرائط جديدة.. لن يصبح العالم كما كان أبدًا.. عجلة الاقتصاد ليست وحدها التى تفرض على الجميع خطوط سير مختلفة واشتباكات وتحالفات غير متوقعة ليست وحدها.. ما يحدث فى غرب وجنوب القارة الإفريقية لم يكن من فراغ.. وما يحدث فى أطراف أوروبا أيضًا.. وفى مناطق أخرى.. الجغرافيا تتغير.. وتبقى تلك الروابط التاريخية.. روابط الدم والتراث الثقافى الواحد عامل مهم فى رسم تلك الخريطة لذلك العالم الجديد.. وعلينا فى هذه اللحظة أن نتمسك بأهداب أى لحظة تقربنا من ذلك المحيط الإنسانى الذى يجمعنا بالكثيرين وفى مقدمتهم أهل سوريا.. الغناء والشعر والدراما والفنون ليست رفاهية وليست ترفيهًا فقط لكنها جسور تمهد لأهل الاقتصاد وأهل السياسة طرقًا أكثر اتساعًا.. ما تفعله أغنية أو قصيدة أو كتاب يفوق ما تفعله عشرات الآليات الأخرى وتزيل أى عوائق.. رجوع سوريا إلى محيطها العربى لم يكن مجرد حنين إلى أيام خلت ولكن أعتقد أيضًا أنه كان ضرورة استراتيجية مؤثرة وحاسمة لأفكار وتداعيات تجرى الآن ومستقبلًا فى هذا الشرق.. الشرق الذى لم يعد سعيدًا على أى حال.