المتغطى بالغرب عريان
لا أعرف هل التاريخ يعيد نفسه تمامًا، أم أن التفاصيل تختلف من زمن لزمن؟ لكن الأكيد أن الصراع يتكرر.. الصراع فى تاريخ مصر الحديث دائمًا كان بين معسكرين.. معسكر الوطنية المصرية ومعسكر أذناب الغرب من المصريين.. الوطنيون يحملون كل عيوب المصرى العادى.. لكنهم وطنيون.. أحرار.. والأذناب يحاولون أن يجروا عملية تجميل لخيانتهم، فيقولون مثلًا إن الغرب ديمقراطى ومتقدم، وإن تحكمه فى شئون المصريين يصب فى مصلحتهم فى النهاية!.. هناك عشرات رددوا هذا الكلام فى آخر قرنين من عمر مصر، وقد نسيهم المصريون وداس عليهم التاريخ بحذائه.. المصريون لا يحترمون الأذناب ويسقطونهم من التاريخ.. أول نموذج كان المعلم يعقوب، كان من قادة الأقباط، انحاز للحملة الفرنسية، وقاد كتيبة مسلحة تحارب معها، وعندما رحلت سفن الحملة رحل معها.. مات فى عرض البحر ووضع الفرنسيون جثته فى برميل نبيذ حتى لا تتعفن.. يخجل الجميع من ذكره ويتبرأ منه الأقباط قبل المسلمين.. لو كان صاحب وجهة نظر لما استقوى بالأعداء ولبقى هنا معنا، لكنه خان قومه والتحق بالآخرين.. ومثله كان محمد بك الألفى الذى استقوى بإنجلترا، وأرسلت الأخيرة حملة رشيد ١٩٠٧ لوضعه على مقعد الحكم.. مات الألفى بمجرد وصول الحملة وأباد المصريون كتائب كاملة من الجيش الإنجليزى، وسقط الألفى من التاريخ والجغرافيا وتحول قصره المنيف لخرابة كبيرة.. الشعب المصرى متطرف فى حبه لوطنه.. يكره من يشك مجرد الشك فى ولائه للغرب، فى ١٩١٩ ظهرت أقلية من السياسيين تنادى بالاعتدال فى التعامل مع الاحتلال بحجة أنه مفيد للمصريين، سماهم المصريون «برادع الإنجليز»، وهى جمع البردعة التى توضع على الحمار قبل امتطائه.. كان عدلى يكن وطنيًا مخلصًا لكنه أرستقراطى الأصل والمنشأ، وأقنع الوفد المصريين بأن عدلى مهادن للإنجليز، فقال المصريون كلمتهم «الاحتلال على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلى»!، والمعنى «يغور الاستقلال إذا جاء على يد من نشك فى ولائه للوطن».. كانت هناك جريدة كاملة ملء السمع والبصر موالية للاحتلال هى جريدة «المقطم».. تيار كامل من الموالين للاحتلال والمروجين لمزايا الاستعمار.. سقطوا بالكامل وتبخروا من ذاكرة المصريين، وكأنهم دخان فى الهواء أو هشيم تذروه الرياح.. لا يصدق المصريون سوى «اللى منهم»، يحتقرون الغرب وأذنابه ويسقطونهم من الحسابات.. هذه فطرتهم بغض النظر عن المكاسب والخسائر.. حين شعروا بأن أسرة محمد على أفرطت فى منح الامتيازات للأجانب سادت المجتمع حالة من الغليان.. اصطف الأعيان والمثقفون خلف الجيش بقيادة أحمد عرابى.. كانت قضيتهم عادلة لأقصى درجة.. مصريون لا يقبلون بتدخل الأجانب فى شئون بلدهم.. كان لهم أنصار من أحرار أوروبا نفسها.. لكن شهوة إنجلترا للاحتلال كان لها رأى آخر.. كسروا عرابى عسكريًا وشخصيًا.. لكن المصريين أدركوا نبل غايته وخلدوه فى ذاكرتهم لأنه منهم.. ولأن دافعه كان وطنيًا خالصًا حتى إن صادفه عدم التوفيق.. حالة أخرى تؤكد المعنى هى حالة محمود أبوالفتح.. صاحب جريدة المصرى.. رجل كان ملء الأسماع والأبصار طوال الأربعينيات.. اختار أن يتحالف مع العدو ضد بلده.. كانت طيارات إنجلترا تقصف بورسعيد وهو يهلل للعدوان فى إذاعة أسسها بأموال إنجلترا وسماها مصر الحرة!.. أسقطه المصريون من ذاكرتهم.. وذهب لذلك الركن البارد والمظلم فى عقل مصر، وكأنه مات حين مات.. لم يبق منه شىء.. مات الرئيس الذى انضم أبوالفتح للأعداء نكاية فيه.. لكن المصريين ظلوا على موقفهم من أبوالفتح وغيره.. طبقوا عليهم عقوبة «النفى من الذاكرة»، أنتقل من الأمس لليوم فأرى البعض يكرر الخطأ بغباء شديد.. رغم أن الفارق بين الإنسان والحيوان أن الإنسان حيوان له تاريخ، كما قال الأستاذ أحمد بهاء الدين ذات يوم.. إحساس البعض بالقوة بسبب العلاقة بالسفارات الأجنبية إحساس مرضى ومخجل، ولا بد أنه سيقود صاحبه لمهاوى الهلاك.. من الحماقة أن يوجه شخص الإهانات لكل من يقابله لأنه يشعر بأن السفارة الفلانية ستتدخل من أجله! يقول المثل «المتغطى بأمريكا عريان»، وهو مثل مجرب وله عشرات السوابق.. هل يُعقل أن يتصدى شخص للعمل العام فيسب زميلًا له لأنه انتقده.. وعندما يذهب لقسم الشرطة يسب أمين الشرطة ويوجه له الإهانات.. إن أمين الشرطة مجرد موظف عام ينفذ قرار النيابة، فهل من الاحترام توجيه السباب له والاستقواء عليه نتيجة أوهام فى رأس مَن يتعامل معه؟.. أنا رأيت هذا الفيلم من قبل.. وسيخرج «برادع الأمريكان» من المشهد إلى ركن النفايات البارد فى ذاكرة المصريين.. نبوءة أراهن عليها بمئات الكتب التى تروى تاريخ مصر الحديث.. فمَن يقبل الرهان؟