انسف دماغك القديم
فى التسعينيات كان هناك إعلان شهير عن أحد أنواع البلاط الصحى ينتهى بعبارة ذات نبرة عالية يقول فيها المذيع «انسف حمامك القديم».. والحقيقة أن مصر فى نضالها لمواجهة الأزمة الاقتصادية لن تفعل هذا بالمشروعات فقط، فالمشروعات يديرها بشر، والبشر تحركهم عقول، والعقول تسكنها أفكار، وإذا كانت الأفكار قديمة فلن تقود إلى نتائج جديدة.. والحقيقة أن ثورة الثلاثين من يونيو فى حاجة إلى إنجاز ثورة فكرية وتغيير فى المفاهيم كى تستطيع أن تتم إنجازها على الأرض.. جزء من المشكلة أن معظم الوجوه الإعلامية والثقافية موروثة من عهد ما قبل يناير ٢٠١١ ولحم أكتافها من خير هذا العهد مهما حاول البعض التنكر والتبرؤ وتغيير الأقنعة، وبالتالى فإنها تنتج نفس الخطاب الذى كان سائدًا فى ذلك العصر التعيس رغم كل شىء، ولنأخذ مثلًا الموقف من قضية هجرة الشباب لأوروبا.. الواقع العالمى والمصرى يقول إننا يجب أن نغير تعاطينا مع هذه القضية بنسبة مئة فى المئة، وإننا يجب أن نغير الخطاب الذى ساد لسنوات طويلة والذى يثبط من عزيمة الشباب الذين يريدون الهجرة، ويحقر ما يفعلونه هناك، ويصفهم بأنهم يغسلون الصحون، وأنهم لو استثمروا تكلفة السفر فى إقامة مشروع هنا لكان خيرًا لهم.. هذا الخطاب البائس يصدر عن مليونيرات لا يعرفون شيئًا عن معاناة الشباب، ولا عن حياتهم هنا، وقد سمعته من إعلاميين مصريين يشتركان فى العمل فى القنوات الخاصة وفى أن ثروة كل منهما عدة مئات الملايين فى داخل مصر وخارجها، ومع ذلك فهما يكرران ذلك الخطاب البائس، لا لشىء إلا لأنه خطاب موروث من سنوات سابقة.. وفى مقابل هذا الخطاب الكاذب الصادر عمّن لا يعرف معاناة الشاب فى بداية حياته هناك خطاب آخر أكثر بؤسًا يصور الهجرة من الوطن وكأنها دليل على سوء الحال وتدنى الأوضاع وأن مصر لم تعد أمًا رؤومًا لأبنائها.. إلخ وهو خطاب لا يقل كذبًا ولا تدليسًا يصوغه شعراء يسكنون القصور وينعمون ببلهنية العيش على أساس أنه مناسب لاستهلاك الطبقات الفقيرة.. والحقيقة أن كلا الخطابين «الذى يلوم الشباب والذى يلوم البلد» جاهل وكاذب معًا، فلو كانت هجرة المواطنين من بلد ما دليلًا على سوء حاله لما كانت الهند «خامس قوة اقتصادية فى العالم» من أكثر البلدان تصديرًا للمهاجرين، ولما كانت بريطانيا، الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، أكثر الدول تصديرًا للمهاجرين للعالم الجديد منذ ثلاثة قرون.. خطاب شيطنة الهجرة خطاب جاهل لأنه يتجاهل التغيرات التى تحدث فى العالم الأول، وفى أوروبا تحديدًا، حيث تنخفض معدلات المواليد حتى تصل إلى الصفر، ويزداد الطلب على مهاجرين من الشباب لملء الوظائف التى تخلو بوفاة شاغليها، وتقول معلومات صحفية إن هناك اثنين مليون وظيفة ستصبح خالية فى ألمانيا خلال الخمس سنوات المقبلة وتحتاج لمن يملؤها، وما ينطبق على ألمانيا ينطبق على غيرها من بلاد القارة العجوز.. ومن مصلحتنا أن يحصل المواطنون المصريون على هذه الفرص فى العمل وفى الحياة فى تلك المجتمعات المتقدمة والتى تعنى ببساطة مزيدًا من الدخل فى العملة الصعبة.. بل إن علينا كمجتمع أن نستهدف ذلك ضمن رؤية مصر ٢٠٣٠.. فكما نقول إننا نستهدف أن يصبح دخل مصر من السياحة ٣٠ مليار دولار بعد خمس سنوات «أى يصبح الضعف» علينا أن نستهدف أن تصبح تحويلات العاملين فى الخارج ستين مليار دولار بعد خمس سنوات بدلًا من ٣٢ مليار دولار حاليًا، وأظن أن على المجتمع المدنى تأسيس جمعية أهلية للتشجيع على العمل فى الخارج وتقديم المعلومات اللازمة، وإقامة شبكة مع الجاليات المصرية فى الخارج لتوفير فرص عمل قانونية وشرعية وإلقاء الضوء على الفرص المتاحة فى المجتمعات المختلفة، ويجب أن نعرف أن الإخوان المسلمين سيطروا على معظم الوجود المصرى فى الخارج لأنهم مارسوا هذا السلوك التضامنى وتكفلوا بتوفير فرص العمل فى الخارج لبعضهم البعض فكانت النتيجة أنهم سيطروا على سوق تجارة العملة والاقتصاد المصرى كله منذ منتصف السبعينيات حتى التسعينيات حين تمت زحزحتهم قليلًا عن مركز الصدارة وإن بقوا يجنون المليارات والملايين.. مطلوب منظمة مجتمع مدنى تستعين بالخبرات الحكومية لتشجيع الشباب على الهجرة التى تضمن الحصول على دخل جيد وتعليم جيد وتأهيل مهنى جيد واحتكاك بحضارات العالم، ويجب أن نعلم أن هناك مجتمعات كاملة تعيش وتبنى نهضتها من تحويلات العاملين فى الخارج لأن الله يهب لكل شعب نوعًا من الثروة وقد وهبنا الثروة البشرية التى لم نُحسن استخدامها حتى الآن.. ويكفى فى هذا الموضوع قول الإمام الشافعى إمام أهل مصر «تغرب عن الأوطان فى طلب العلى.. وسافر ففى الأسفار خمس فوائد.. تفرج هم، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد».