مصر الواقعية
فى طفولتى أحببت أكثر أغنية مجهولة لعبدالحليم حافظ.. كان يغنى تتر المسلسل الإذاعى «أرجوك لا تفهمنى بسرعة».. فى ١٩٧٣ كان يقول فى أغنيته «ماشى فى طريق من كام سنة.. ماشى فى طريق.. تعب الطريق ما تعبت أنا.. تعب الطريق»، أشعر بأن هذه الكلمات هى لسان حال مصر حاليًا، إننا نواصل السير لتكملة ما بدأناه رغم المصاعب.. لا حل سوى تكملة الطريق.. هذا هو المعنى الذى أكده الرئيس فى الأكاديمية العسكرية بالأمس.. من ينظر إلى الصورة من بعيد يشعر وكأن هناك مصرين لا مصر واحدة.. أولاهما مصر الحقيقية وثانيتهما مصر الخيالية.. فى مصر الحقيقية يواصل الناس العمل والحياة رغم الصعاب، هناك ثمار يتم جنيها بالفعل، وهناك ثمار تأخر قطافها بفعل الظروف.. فى آخر أسابيع مثلًا جنت مصر ثمار بناء العلمين الجديدة.. تم إطلاق مهرجان سياحى ناجح للغاية.. زار مئات الآلاف المدينة.. قصدها حكام ومشاهير وأثرياء للاصطياف فيها.. أصبح لدينا مقصد سياحى عالمى كان مجرد حقل ألغام من أربع سنوات فقط.. فى مصر الحقيقية أيضًا يزور الرئيس آخر مدينة مصرية على الحدود الغربية ويعلن عن تأسيس منطقة لوجستية عملاقة بميناء «جرجوب» التجارى على الساحل الشمالى الغربى.. منذ سنوات قليلة لم يكن هناك ميناء من الأساس ولا منطقة لوجستية، ولم يكن الساحل كله سوى مجموعة قرى وشاليهات يغلقها أصحابها طوال العام، ويتذكرونها أسابيع قليلة فى أشهر الصيف.. فى الكواليس أن أنباء ترامت عن رغبة دولة ما فى تواجد عسكرى فى الموانئ الليبية، وأن ذلك ووجه بمعارضة عنيفة فى الداخل الليبى وتزامن ذلك مع مضى مصر فى مخططها لتعمير الساحل الشمالى الذى طالب به أحمد بهاء الدين عام ١٩٧١!.. وينفذه الرئيس بعد نصف قرن من المطالبة به.. والسبب أننا كنا طوال أربعين عامًا فى سبات عميق رغم أن الظروف كانت أكثر من مواتية.. فى مصر الحقيقية أيضًا عملية سياسية ناجحة للحوار الوطنى وبناء جبهة سياسية قوية على أرضية الوطن.. تم رفع مخرجات الحوار الوطنى وإحالتها للدراسة، تم استيعاب عناصر سياسية متميزة ودمجها فى بنية العمل السياسى، تم إيضاح حقائق وشرح خفايا، واكتسب معسكر الوطن عناصر كان يمكن استخدامها بشكل سلبى من هذا الطرف أو ذاك، التوصية بانتخابات المحليات من شأنها إتاحة الفرصة لنخبة سياسية جديدة وقيادات تنبت من أرض الواقع بعيدًا عن ثنائية التطرف والفساد التى سيطرت عقودًا كاملة على مقدرات مصر.. غير بعيد عن هذا الإفراج عن المتهمين فى قضايا ذات طابع سياسى لأن الغرض من الحبس قد انتفى.. أمام هذه العناصر الفرصة الكاملة للاندماج فى العملية السياسية وفق الأطر القانونية أو الاهتمام بحياتهم الشخصية، وفى الحالتين فإن هذا أفضل من بقائهم داخل السجون.. كل المعطيات تقول إنه من المستحيل أن يمارس هؤلاء الشباب نفس الممارسات التى قادتهم للمحاكمة لأن الحكمة تقول «أنت لا تنزل النهر الواحد مرتين» لا الزمان هو الزمان ولا المكان هو المكان ولا البشر أنفسهم يبقون على حالهم مع تراكم الخبرة ومضى السنوات.. فى مصر الواقعية يقول الرئيس إن ملايين الأفدنة ستدخل الخدمة بعد شهور وأنا أصدقه حتى لو تأخر الأمر عدة شهور أخرى.. المهم أن جهدًا يبذل وعملًا يجرى وأننا لا نتوقف لحظة عن السعى نحو الأفضل.. فى مقابل مصر الواقعية هناك مصر الكرتونية.. وهذه تجدها على حسابات بعض الهاربين ولجان الإرهاب وعملاء المخابرات الأجنبية والعربية.. تجد عالمًا كاملًا ينافس أفلام قناة «سبيس تون» الكرتونية الشهيرة.. سيناريوهات تناسب خيالات الأطفال.. ورشاشات ودبابات وصراعات ومخابرات.. إلخ.. خيال له طابع هيستيرى من ناحية ويكشف عن عقلية محدودة من ناحية ثانية.. خونة معلنون يتحولون إلى نجوم على «يوتيوب» و«فيسبوك» ويُخلق لهم تاريخ وهمى، وهم مجرد حشرات ومرتزقة وعملاء مخابرات معادية واضحون.. النقطة الإيجابية التى تلمحها عند تحليل الهراء الذى يقدمونه أن المعلومات الحقيقية غائبة عنهم تمامًا بنسبة مئة فى المئة.. لذلك يخرج الواحد منهم ليروى الواقعة الواحدة بعدة تفسيرات مختلفة كل عدة ساعات.. جهلة وتافهون ومبتذلون أيضًا لا هدف لهم سوى تشويه وعى الناس وبلبلة أفكارهم وزيادة معاناتهم.. فاقدون لأى شرف ولا يعنيهم شىء سوى زيادة أرصدتهم فى البنوك.. أنا أحب مصر الحقيقية وأصدقها وأضحك على مصر «الكرتونية» وأعرف أهداف من يحرك راسمى صورتها، وأثق أن مصيرهم هو احتقار المصريين العميق بعد أن تتكشف الحقائق وتنجلى.. وأظن أن هذا اليوم ليس ببعيد.