خطر العنصرية
من سمات الدعاية السوداء أنها تقلب المزايا إلى عيوب، والمميزات إلى خطايا، وتتهم السياسات الناجحة بأنها سبب الأزمة، وغالبًا ما يحدث ذلك كله ضمن عملية تزييف لوعى الناس تستغل معاناتهم الاقتصادية وبعض الجذور الثقافية الكامنة فى اللاوعى الجمعى.. ولعل ذلك لا ينطبق على شىء بقدر ما ينطبق على معالجة لجان الإرهابيين وغيرهم قضية الأجانب المقيمين على أرض مصر من العرب تحديدًا، والذين بلغ عددهم تسعة ملايين مواطن عربى تتعدد أسباب إقامتهم بين العمل والهجرة المؤقتة والاستثمار والوجود المؤقت لإنهاء إجراءات اللجوء للغرب عبر مكاتب الأمم المتحدة فى مصر.. ولا شك أن لجان الإرهاب أرادت أن تقلب الميزة إلى عيب حين راحت تقول إن وجود تسعة ملايين «لاجئ» فى مصر من أسباب زيادة الأزمة الاقتصادية.. وهذا تحليل غير صحيح مبنى على معلومات غير صحيحة لا هدف له سوى إثارة الناس وجعلهم يشعرون بالسوء والغضب حتى يصلوا لمرحلة الانفجار.. ولنحلل هذه الملايين التسعة الموجودة فى مصر لنجد أن تكوينها كالتالى بالأرقام التقريبية المستندة للبيانات وما تنشره الصحف وسنجد التالى... الكتلة الأعظم من هذه الملايين التسعة موجودة فى مصر منذ الثمانينيات وقوامها خمسة ملايين سودانى تراكم وجودهم فى مصر عبر عشرات السنين منذ فتح مصر للسودان عام ١٨٢١ واندماج الحكم فى البلدين، ثم جاءت موجات أكبر، عقب كل تغيير سياسى فى السودان.. ففى ١٩٨٦ أطاح الفريق سوار الذهب بحكم الرئيس جعفر نميرى وثيق الصلة بمصر فجاء الرجل ومعه الآلاف من أركان حكمه ورجال عهده ليقيموا فى مصر ولم يكونوا لاجئين بالمعنى، وكانت أغلبيتهم الكاسحة من الميسورين الذين أقاموا المشاريع ومولوا وجودهم فى مصر.. وقد تكرر الأمر نفسه عقب استيلاء العقيد عمر البشير على الحكم ١٩٨٩، حيث انتقل عشرات الآلاف من رجال حزبى الأمة والاتحاد للقاهرة، وشهدت القاهرة حركة سياسية وصحفية وشعبية سودانية بإشراف الدولة المصرية ومعرفتها، وتكرر الأمر نفسه عقب اشتعال حرب الانفصال فى جنوب السودان، وكانت لمصر صلات سياسية قوية بالعقيد جون قرنق، واستدعى ذلك تواجد الآلاف من الجنوبيين على أرض مصر، ولم يكونوا لاجئين بالمعنى الذى تشير إليه اللجان الإرهابية.. وكانت المحصلة النهائية أن الصحافة المصرية فى التسعينيات طالما نشرت تحقيقات عن أربعة ملايين سودانى يقيمون فى مصر ويعملون فى التجارة والاستثمار ويملكون المساكن، وهم هنا ليسوا لاجئين بالمعنى الذى تقصده اللجان، ولكن هم مهاجرون هجرة مؤقتة، والأكيد أن الرئيس السيسى لم يكن مسئولًا عن وجودهم الذى بدأ منذ الثمانينيات.. أما الكتلة الثانية من ناحية التواجد التاريخى فى مصر وليس من حيث العدد فهى المواطنون العراقيون الذين أتوا لمصر عقب الغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣، وانطباعى العام كصحفى أن غالبيتهم الساحقة من الميسورين ماديًا، ويشيع بين سكان مدينة ٦ أكتوبر حيث يقيم أغلبهم أنهم ليسوا فى حاجة للعمل بسبب ثراء هذا البلد العربى الكبير بالنفط والموارد الطبيعية، وأذكر أننى قابلت صحفيًا عراقيًا منذ عدة سنوات أثناء اضطراب الأوضاع هناك، فأخبرنى أن الجميع فى أفضل حال، وأن القبائل التى تمر أنابيب النفط فى أراضيها تقيم مضخات خاصة وتحصل على نصيبها من النفط وتبيعه لحسابها نكاية فى سلطة الاحتلال الأمريكى! وما أقصد أن أقوله إن هؤلاء الضيوف يأتون إلينا بمدخرات من العملة الصعبة فينعشون أسواقنا بمال قادم من الخارج، والأمر نفسه ينطبق على كتلة السوريين المقيمين فى القاهرة، وبعضهم فقراء وبعضهم أثرياء، والاثنان يشتركان فى تقديس العمل وإتقان العديد من الحرف، وقد انتقل رجال أعمال سوريون كثيرون لمصر عقب ٢٠١١ وأقاموا صناعات ممتازة فى العبور، واختطفت تركيا وقتها مصانع سورية كثيرة، وكانت مصر فى فترة الفراغ السياسى أو تحت حكم الإخوان.. وقد وصف الرئيس السيسى السوريين عن حق بأنهم «بتوع شغل» والسورى تاجر بالفطرة، يعرف كيف يكسب الزبائن بالود.. والبائع السورى يستقبلك بالترحاب ويشيعك بالدعوات، ويعاملك بالحسنى ويؤمن بالقاعدة الذهبية للتجارة وهى مكسب قليل وبيع كثير يقود إلى مكسب أكبر.. وهو فى هذا عكس التاجر المصرى الذى انحرفت أخلاقه غالبًا وساءت طباعه معظم الوقت، واعتمد على كثرة عدد الناس، وغياب الرقابة، وفساد الموظفين المسئولين عن المتابعة، فصار يرفع الأسعار كما يريد ووقتما يريد.. ولا شك أننا استقبلنا موجة أخيرة من اللاجئين السودانيين فى ظروف سيئة للغاية، وبعضهم ينام فى شوارع ٦ أكتوبر بجوار مفوضية اللاجئين وقد دخلوا فى ظروف صعبة وقسرية.. لكن هذا ليس مبررًا لنشر موجات الكراهية ضد كل العرب المقيمين فى مصر أو الادعاء بأنهم سبب فى الأزمة الاقتصادية، لأن هذا كذب وغير صحيح، وهدفه الكيد السياسى للدولة.. لقد استضافت الدول العربية ملايين المصريين تحت علم العروبة، وكنا وقتها نفيد ونستفيد، كما يفعل الضيوف العرب لدينا حاليًا.. فى عراق الثمانينيات كان هناك أربعة ملايين عامل مصرى لهم كل حقوق المواطن العراقى وعوملوا بمنتهى الكرم، وحتى الآن لنا ملايين من العاملين فى الخليج نغضب إذا أساء لهم أحد.. وعلينا نحن أيضًا أن نوقف الإساءة للضيوف العرب وأن ندرك أن من يروجون لهذه العنصرية يدسون لنا السم فى العسل.. وما أكثر من يدسون السم فى العسل هذه الأيام.