الحب وهم ولا بصحيح
لدى عودته إلى بيته بعد يوم من العمل وجد "فيرجيل" على المجيب الآلي لهاتفه المنزلي هذه الرسالة المحيرة: "فيرجيل، أنا كلارا، أنا آسفة، ولكنني أفضل أن نتوقف هنا، سأهجرك يا فيرجيل"، كان فيرجيل معتاداً على أن تهجره النساء، ولكن لم تكن لديه أي ذكرى عن هذه المرأة التي تدعى كلارا. تفاجأ فرجيل وتساءل إن لم يكن مريضاً مرضاً خطيراً أو مصاباً بداء النسيان، أسرع إلى طبيبته النفسية، وطلب المشورة من صديقته المقربة آرميل علّها تعرف عن المرأة التى تدعى كلارا وإن كان تعرف عليها بإحدى الليالي وكان مخمورا أو ما شابه.. ولكن لكونه لم يجد تفسيراً مقنعاً انتهى فيرجيل إلى اتخاذ قرار غير متوقع: أن يستعيد هذه المرأة التي لا يعرفها!
مستشهدا بأقسى كلمات دارت بخلده "ليست هناك سوى وسيلة وحيدة لنحتفظ بمن نحبهم وهي ألا ندعهم يدخلون إلى حياتنا"، جملة يقولها فيرجيل بطل رواية الفرنسي مارتن باج "قد تكون قصة حب"، جملة قد تستفز البعض، والذين ربما يرون فيها بعض الأنانية خاصة من هؤلاء الذين يتباكون على زمن كان الحب فيه ثيمة كبرى يوظفها الأدب من أجل معالجة المحبين من مرضهم بالحبيب بطريقة رومانسية كلاسيكية قد ولّى زمانها، فهناك الآن من يطرح هذا الموضوع بأساليب مختلفة وجديدة كما يطرحه "باج" فى قالب ساخر.
الحب في الرواية يقع في خلفية الحدث ولكنه يناوشنا ويشغل آلتنا الذهنية لنسأل: ماذا يريد باج من حبكته السردية؟ بعد أن تبدأ الرواية بالرسالة الصوتية المسجلة وتلك المرأة التى تخبره بأنها سوف تقوم بهجره لأنها لم تعد تحتمل، وبرغم تعدد علاقات فيرجيل العاطفية إلا أنه يفشل في تذكر أي امرأة عرفها تدعى كلارا، وإن كان بالفعل على علاقة بها فلماذا لا يتذكر عنها شيئا؟ ولماذا تبلغه الآن برغبتها فى الرحيل إن كانت لم تكن يوما موجودة بحياته؟! وهنا نبدأ مع فيرجيل عملية بحث تأخذ الطابع البوليسي اللطيف في بعض أجزاء السرد، ونتعاطف مع البطل وهو يذهب إلى أحد المعالجين النفسيين، حيث احتلت كلارا حيزاً كبيراً من تفكيره، يسأل عنها كل من يعرفهم، والمثير أن الجميع يحدثونه عنها، يتخيل شكلها، يتذكر أنه قابل ذات مرة في إحدى السهرات فتاة بالاسم نفسه، يقنع نفسه بأنها هي صاحبة الرسالة، ويرافق هذا البحث تصوير دقيق لطبيعة المجتمع الذي يحيط بفيرجيل، حيث التفاهة والعلاقات العابرة والهامشية التي لا تستحق وصفها بالعلاقات الإنسانية، وجاراته بذات البناية السكنية اللاتي يعملن ببيوت الهوى حيث يقابلهن باكرا كل صباح فى طريقه إلى العمل، فتتجلى سطحيته فى تقبلهن كعاهرات، بل إنه لا يشكو من تصاعد أصواتهن ليلا أثناء عملهن أو يتجاهلهن فى الصباح على سبيل المثال بل يلقى التحية بابتسامة واسعة ويسأل إن كانت إحداهن تحتاج لشىء!
هنا تصور الرواية ببراعة هشاشة العلاقات الحقيقية في المجتمع الراهن والمتأثر بالمادية والعولمة والاستهلاك، وكل ما يتسم بالسرعة، يسأل فيرجيل نفسه: "في هذه الحلبة هل أنت قادر على التسلية؟"، ويقارن فيرجيل بين هذا المجتمع وتفكيره في فتاة تظل حتى النهاية متخيلة. فعندما يصل إلى مسكن كلارا في النهاية يجدها وقد رحلت، وهنا تتضح لنا الفكرة التي ود "باج" تضمينها في روايته، خاصة مع مقولة فيرجيل لنفسه في الرواية: "لقد استعدت خلال هذه الفترة حريتي وخيالي"، لقد كانت كلارا هي المحفزة لهاتين القيمتين: الحرية والخيال، كلارا التى لم يقابلها ولم تكن يوما بحياته قد صنعت منه هذا الشخص الحر الذى يتمنى لو أحبها يوما بالفعل.
الحب في الرواية يساوي الحرية والخيال حتى لو منحناه لشخصية لا توجد في الواقع، الحب هنا يسكن في العقل وفي قدرتنا على أن نخلص في مشاعرنا حتى لو تركزت على فكرة لا نستطيع أن نتلمس مفرداتها وأبعادها في حياتنا الواقعية، هو الحب الحقيقي في مقابل الحب الزائف والرائج في مجتمعات الاستعراض، حيث تنتشر اللا مبالاة والأفكار العدمية بأنماطها المعيشية فائقة الحداثة، حيث لا وقت لإعمال آلة الخيال في موضوع ظل لآلاف السنين ابناً للخيال ومفعلاً له في الوقت نفسه، هو الحب الحقيقي حتى لو كان وهماً.