فيلم قديم
أتابع بعض ما تنشره الصحف الغربية عن مصر، فأشعر بأننى شاهدت هذا الفيلم من قبل، ما إن يشعر البعض بالقلق من قوة دولة ما حتى تبدأ الخطة، تدفع مليارات الدولارات وتبدأ خطة التشويه.. يتم الحديث عن دول بعينها على أنها تحولت لخرابات، وأن حاكمها «ديكتاتور»، وأنه يأكل خروفين على العشاء مثلًا، ويقتل من يُلقى عليه تحية الصباح بطريقة لا تعجبه! وأنه يملك مئات المليارات فى بنوك سرية لا يعرفها أحد.. يتم انتقاء صورة يمسك فيها ببندقية صيد مثلًا لتصبح هذه هى الصورة المعتمدة له لتثبيت صورة ذهنية معينة... إلخ، ينقضى الوقت، ويتكفل الزمن بكشف كل شىء.. خطط التشويه، والموضوعات المدفوعة، والأخبار المزيفة، والمعارضة المصنوعة ليست سوى مقدمة لإسقاط دول، وإذلال شعوب، وتدمير جيوش، والسطو على ثروات، وإتاحة الفرصة للفاسدين لسرقة مئات المليارات ونزحها خارج البلد المنكوب، لأن هذا هو المطلوب تمامًا.. أن يبقى البلد الفلانى ضائعًا.. منهوبًا.. مدمرًا.. مشغولًا بنفسه.. لا لسبب إلا لأن وجوده قويًا يثير مخاوف لا أساس لها لدى البعض.. والمفارقة أن الذين يمولون كل هذا الخراب أحيانًا ما يشعرون بالندم.. وبأنهم أساءوا التصرف.. ويحاولون إصلاح ما فعلوه، ولكن بعد فوات الأوان.. أشاهد الفيلم وأنا أعرف أن مصر شىء آخر، وأن لحمنا مر وعظامنا قوية، وأن وضعنا كدولة تاريخية كبرى يستعصى على الطامعين والراشين والمرتشين، وأن مصر رقم يصعب محوه من معادلات السياسة والتاريخ؛ حتى لو روج البعض لعكس ذلك.. أسهل شىء أن يرشو شخص ثرى صحفيًا فى مجلة أجنبية ليهاجم دولة ما.. إن حقيبة بها ملايين الدولارات تجعل بعضهم يهاجم أباه وأمه لا مصر فقط.. والسوابق كثيرة فى كواليس الصحافة والسياسة فى الغرب.. أقرأ ما يكتبه البعض وأتذكر فيلم «الزوجة الغائبة- إنتاج ١٩١٤» من إخراج المخرج ديفيد فينشر.. إنه فيلم يصور كيف يمكن للإعلام قلب الحقائق.. فنحن فى نصف الفيلم الأول نرى زوجة تختفى من منزلها.. وكل شىء يشير إلى أن زوجها قتلها، وبرامج التوك شو تتهمه بذلك، وأهل البلدة كلهم يقتنعون بذلك، وكل الأدلة تشير لذلك، وفى النصف الثانى من الفيلم يحدث التحول الدرامى «بلو تويست»، نكتشف أن الزوجة مختلة نفسيًا، وأنها هى التى دبرت حادث اختفائها، وأن هدفها كان أن يُتهم زوجها بقتلها، وأنها رتبت كل الأدلة بما فيها آثار دمائها التى وجدها المحققون، ولا يعرف زوجها عنها شيئًا.. يفهم الزوج أن اللعبة لعبة إعلام.. وأن عليه أن يستخدم سلاح الإعلام.. هو طبعًا يعرف أن زوجته على قيد الحياة، وأنها هى التى دبرت كل ذلك.. يخرج فى برنامج ليمنح الجمهور ما يريده.. يقول إنه زوج سيئ، وإنه بالفعل خان زوجته، ولكنه ما زال يحبها- الزوج هنا يكذب لإجبار زوجته على العودة وإنقاذ رقبته- تسمعه الزوجة التى كانت تقيم لدى صديق قديم لها.. وتقرر العودة.. تواجهها مشكلة بسيطة.. وهى كيف ستبرر اختفاءها؟، تقرر قتل صديقها الذى استضافها والادعاء بأنه كان يختطفها وأنه اغتصبها! ترتب كل الأدلة الكاذبة باستخدام الكاميرات.. تقتل صديقها الذى فتح لها بيته، وتعود للرأى العام فى صورة الضحية! يعرف زوجها كل ما فعلته وأنها شيطانة، وتعترف له هى بكل التفاصيل.. لكنه يقرر الاستمرار معها لأن الرأى العام لن يرحمه لو طلق هذه «البطلة»، التى واجهت مغتصبها وقتلته! والمعنى أن الحقيقة هى ما تستطيع وسائل الإعلام إقناع الناس به، وليست هى الموجودة فى أرض الواقع.. من يستطيع تزييف الأدلة وخلق الصورة الكاذبة يصدقه الناس.. لذلك نحن نطالع يوميًا ما يمكن تسميته بـ«نشرة أخبار الأكاذيب»، نشرة يكتبها مطاريد هاربون للخارج.. ومرتزقة يعملون فى لجان مهمتها نشر الأكاذيب وقلب الحقائق.. خذ عندك مثلًا تطوير مسجد السيدة نفيسة، واسأل نفسك.. مَن الذى يغضبه هذا التطوير بعد أن يدرك معناه؟، من الممكن مثلًا أن يغضب الوهابيون الذين أهالوا التراب على ثروة مصر من الأولياء طوال نصف قرن ماضٍ بحجة أن زيارة المقامات حرام.. بل كانوا يرسلون أتباعهم لهدم الأضرحة وترويع زوارها بالقوة والبلطجة.. هل يغضب هؤلاء الوهابيون من أن مصر تستعيد جزءًا من تاريخها ومن ذاتها ومن مقومات قوتها الناعمة ومن محاور سياحتها الدينية؟ هل الغاضبون مثلًا ممولون من دول يغضبها أن تفتح مصر سوقًا للسياحة الدينية تستند فيها لتراث مهول من مساجد ومزارات آل البيت؟ هل المهاجمون وأتباعهم يغضبهم أن يتم تطوير السيدة نفيسة مسجدًا وميدانًا ليصبح مزارًا ثانيًا مثل سيدنا الحسين الذى يزوره كل عربى وأجنبى يأتى لمصر، ويقضى ليلة فى رحابه؟.. هل يزعجهم أن يزيد عدد المزارات فى القاهرة الإسلامية من مزار واحد هو الحسين إلى ستة أو سبعة مزارات مثلًا؟ فيقضى السائح ليلة فى ميدان الحسين ومقاهيه، وليلة أخرى فى السيدة نفيسة وما يجاورها، وليلة ثالثة فى السيدة عائشة، وليلة رابعة فى الإمام الشافعى... إلخ.. إذا كان هذا هو ما يضايقهم، فإنه يسعد كل مصرى مخلص أن يتضايقوا وأن يتألموا وأن يصرخوا وأن يملأوا الدنيا عواءً، ومصر تسير للإمام رغم الظروف.