رجل أحبنا.. وأحببناه
لم تكن مجرد احتفالية عادية بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد قداسة البابا شنودة الثالث رحمة الله .. بقدر ما كانت تظاهرة محبة وتقدير وعرفان لروحه الطاهرة وذكراه العطرة.. وأعتقد أن معظم من شاركوا فيها يحملون ذكريات طيبة مع قداسته والباقى كان يتمنى لو كان قد تقابل أو تعامل معه ولو فى مناسبة أو موقف واحد.
فى إعداد تم بامتياز من نيافة الأنبا إرميا، الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى الأرثوذكسى حضر المئات من الشخصيات العامة ورجال الدولة وسفراء العديد من الدول لإحياء ذكرى ميلاد رمز وطنى أجمع الناس على حبه واحترامه.. وأزعم أن نيافة الأنبا إرميا يحمل حباً حقيقياً لهذا الرجل فقد شاهدت ذلك بنفسى خلال تلك اللقاءات التى جمعتنى مع قداسته عدة مرات وأعلم أنه ترك فى نفسه قيم جليلة أضافت الى شخصيته الكثير والكثير.
استمعت إلى كلمة نيافة الأنبا إرميا والأنبا موسى أسقف الشباب ثم كلمة الدكتور مصطفى الفقى التى أشار فيها الى المكانة العالمية التى كان يتمتع بها قداسة البابا شنوده.. شاءت الظروف أن ألتقى بقداسته عدة مرات وخلالها عرفت مدى وطنية وولاء هذا الرجل لمصر فقد كان له الفضل الكبير فى وأد الفتنة الطائفية وفى حشد المسيحيين والمسلمين فى حرب أكتوبر 1973 وأيضاً فى إنقاذ البلاد من خطر التقسيم والانقسام أثناء وبعد أحداث يناير 2011 وكانت رؤيته فى تلك الأحداث عميقة مما مكن البلاد من اجتياز سنوات الفوضى ومهد لمشاركة جميع المصريين فى ثورة الإنقاذ عام 2013.
بطبيعة الحال ووفقاً لما شاهدته وسمعته خلال ذلك الحدث التاريخى فإننى قد لا أضيف جديداً ولكن تحضرنى بعض المواقف التى جمعتنى مع قداسته قد لا يعرفها الكثيرون، والتى تؤكد على أهميته الدولية ونظرته السياسية علاوة على قدرته فى إخفاء انفعالاته مقدماً مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.. ففى إحدى زياراته لدولة سوريا الشقيقة وكنت حينئذ أشغل منصب القنصل المصرى هناك وكانت تلك الزيارة فى أعقاب بعض أحداث الشغب فى مصر والتقى خلالها بالرئيس السورى الراحل حافظ الأسد، والذى كان لا يتقابل إلا مع رؤساء الدول فقط ومعروف عنه ذلك.. وامتد اللقاء قرابة الساعتين علمت بعدها أن الحديث كله كان على مصر وضرورة التلاحم بين البلدين لإنهما يمثلان قلب العروبة فى هذا التوقيت وأكد قداسته أن الأوضاع فى مصر مستقرة تماماً- على الرغم من سخونتها فى توقيت الزيارة- وأنه لا توجد تفرقة بين المسلم والمسيحى وأن أى خلافات يتم حلها داخلياً بين رجال الدين وبعضهم أو من خلال الأجهزة المعنية بهذا الشأن.. وعندما قمت بوداعه بمطار دمشق قال لى إن الرئيس السورى حافظ الأسد رجل عروبى وطنى يحب ويحترم الشعب المصرى وأن الشعب السورى هو أقرب الشعوب لمصر.
وفى لقاء آخر كان فى أعقاب حادث كنيسة القديسيين وكان فى طريقه للسفر تحدثت معه عن ذلك الحادث وتداعياته وعما إذا كان يشعر بالغضب مما حدث قال لى إنه لا يشعر بالغضب ولكن بالحزن على ما حدث خاصة وأن شعبه لا يعرف الكره أو الحقد بل يعرف التسامح والترفع وأن ما يثير أحزانه هو ما يشعر به أبناؤه من الخوف والرعب من تلك التفجيرات وأعمال التخريب والإرهاب التى يتعرضون لها.. وهنا يجب أن أشير إلى أن ما قام به الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ توليه شئون البلاد من حماية الكنائس وتجديدها وتفعيل قوانين بنائها وترخيصها والمشاركة فى الاحتفالات السنوية للكنيسة المصرية.. كل ذلك أدى إلى الشعور بالأمن والأمان والاستقرار بعد القضاء على أعمال العنف والتخريب الذى كانت تقوم به جماعات الضلال ومعتنقى الفاشية الدينية المتطرفة.
وفى لقاء آخر وفى إحدى رحلاته للعلاج سألته عما يشعر به من مرض أو ألم فأجابنى إجابة لم أكن أتوقعها حيث قال "أنا أستمتع بالألم لأنه يؤكد لى أنى قريب من الله ولم ينسنى".. وفى نفس اللقاء حاولت أن أسرى عنه وأقول لقداسته إننا ندعو الله لك بالشفاء العاجل وأن تعود إلى مصر فى أسرع وقت لأنك تمثل "رمانة الميزان فى مصر" وفى لمحة لا تخلو من الذكاء الفطرى وسرعة البديهة شعر إننى أحاول أن أخرج بالحديث إلى ناحية التفاؤل وهنا ابتسم وقال"أنت عارف أنى من أسيوط وأنها مشهورة بالرمان" وكم أسعدتنى ضحكته وتفاؤله وارتباطه بأرضه ووطنه وشعبه.
كان قداسة البابا شنودة حريصا على بناء كنائس مصرية للمصريين فى المهجر لكى يحافظ على هويتهم المصرية القبطية فى البلاد التى يعيشون فيها وكأنما بهذا يمد خيوط المواطنة بين أبناءه فى الخارج وبين وطنهم الأم مصر.
ومن أقواله المأثورة أثناء حرب أكتوبر 1973 عندما قام بزيارة الجبهة وكان الجيش الثانى فى هذا التوقيت بقيادة اللواء احمد بدوى والجيش الثالث بقيادة اللواء فؤاد عزيز غالى وهنا قال إنهما يحاربان من أجل مصر دون فرق بين مسلم ومسيحى.. كما أنه رفض تأسيس حزب للأقباط عام 1989.. وقال "من أجل الوطن وحرصاً على وحدته أرفض قيام حزب مسيحى.. نحن مصريون جزء من شعب مصر ولا نحب أن نعتبر أنفسنا أقلية فحتى توجد وحدة وطنية يجب ألا نقول مسيحى ومسلم بل نقول مصرى".
كانت عظته الأخيرة بعد هجوم المتطرفين على المقر البابوى بالعباسية بعنوان "اغفروا" حيث كان يمنع أبناءه من الغضب ويدعوهم إلى التسامح قائلاً: "كله خير- مسيرها تنتهى ...ربنا موجود" ثم يصلى للمسيئين طالباً من الله ألا يقيم عليهم خطاياهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون".
كنت أتمنى أن يكون هذا المقال فى أعقاب تلك الاحتفالية العظيمة أو قبلها لكى يعلم المشاركون فيها جزءا من عطائه ووطنيته وولائه للوطن زرعها هذا الرجل فى نفوس كل من تعامل معه.. لقد أسس بيت العائلة المصرية مع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وهو فى قمة معاناته وحزنه فى أعقاب حادث كنيسة القديسيين.. حيث انبثق هذا الكيان من رحم المعاناة والحزن الذى كان يكتنف مشاعره فى رسالة وطنية أخرى تؤكد إعلائه مصلحة الوطن أولاً وقبل كل شىء، وكان يقول: "نحن ينبغى أن نتعب ونحزن لكى يستريح الناس".
هذا جزء يسير من سيرة ومسيرة رجل وطنى أحبنا فأحببناه.. وعوضنا عنه خير فى قداسة البابا تواضوس الثانى راعى تلك الاحتفالية المهيبة وفى رجال الكنيسة المصرية الوطنيين الشرفاء.. وتحيا مصر.