ألهمته عناوين الجريدة الرئيسية بمطلعه.. مدحت عاصم يروى كواليس "نشيد التحرير"
ما لا يعرفه الكثيرون عن الموسيقار الملحن المصري مدحت عاصم، صاحب رائعة "عطشان يا صبايا"، والتي ألفها خصيصًا للبيانو، حتى إنه أطلق عليه "ملك البيانو"، هو دوره الوطني في الكفاح ضد الاستعمار الإنجليزي لمصر، حتى إنه سجن في نهاية الأربعينيات على خلفية اتهامه بتوزيع منشورات ضد الاحتلال الإنجليزي.
ومن المأثور أيضًا عن الملحن مدحت عاصم، تأليفه وتلحينه للأناشيد والأغاني الوطنية، من بينها "نشيد التحرير"، والذي كتب عن كواليس ميلاد هذا النشيد، وذلك في العدد 105 من مجلة الكواكب والمنشور بتاريخ 4 أغسطس من العام 1953.
يستهل مدحت عاصم مقاله المعنون بــ"النشيد الذي صنعته الصدفة"، بالحديث عن الاتصال الهاتفي الذي تلقاه من المخرج أحمد بدرخان، والذي تعاون معه في فيلم "مصطفى كامل"، حيث وضع الموسيقى التصويرية للفيلم، وكيف أن بدرخان أخبره بالعرض الخاص للفيلم بعد الإفراج عنه، حيث إن الفيلم كان ممنوعًا من العرض حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952 والتي أفرجت عن الفيلم وسمحت بعرضه، وكيف أن هذا العرض سيحضره محمد نجيب.
ويذكر مدحت عاصم ما اقترحه المخرج أحمد بدرخان بخصوص عرض الفيلم والذي يشهده محمد نجيب، وضرورة أن يكون في ضمن الحفل نشيد وطني.
كواليس حفل افتتاح فيلم "مصطفي كامل"
ويمضي مدحت عاصم في مقاله حول نشيد التحرير وكيف ظهر: كانت فرحتي بالإفراج عن الفيلم - فيلم مصطفى كامل - الذي سكب فيه بدرخان عصارة خبرته ووقته وجهده فرحة كبيرة. ثم إن تشريف الرئيس محمد نجيب لحفل الافتتاح أمر لا يستهان به، ويجب أن تخرج على ضوئه نتائج كثيرة. منها حب هذا العهد للفن، وفتح المنافذ أمام الحريات، وتشجيعه لإعادة سير الأبطال الذين أدوا لمصر أجل الخدمات، دون حقد عليهم ودون ضغينة، كما كان يفعل السابقون.
ويتساءل عاصم: والنشيد أي نشيد أضع؟ وبيني وبين الافتتاح خمسة أيام، ومن أكلف بوضع النشيد؟ وهل المسألة ارتجال بحيث ينتهي المؤلف من التأليف، والملحن - الذي هو أنا- من التلحين ثم توزيع الموسيقي، في خمسة أيام؟ مستحيل .. مستحيل.
ولست أدري متى أخذ النوم يتسلل إلى جفني واستيقظت لأؤدي صلاح الفجر، وبعد أن انتهيت منه وطلبت من الله التوفيق رحت أتطلع من النافذة على الكائنات الهاجعة في أحضان الفجر. وكانت على منضدة أمامي صحف اليوم السابق، وقد كتبت في إطارات واضحة شعار العهد الجديد "الاتحاد والنظام والعمل".
بالاتحاد والنظام والعمل
ويلفت مدحت عاصم إلى: وجعلت أقلب المبادئ الثلاثة على شتى الوجوه. العمل والنظام والاتحاد، والاتحاد والعمل والنظام، ثم أقول النظام والعمل والاتحاد، ووجدتني أمسك ورقة وقلمًا ومن وحي الفجر والصلاة لله كتبت: "على الإله القوي الاعتماد" وسارت يدي على الورقة "بالنظام والعمل والاتحاد" وفي ثلاث دقائق كنت كتبت باقي المطلع: انهضى يا مصر يا خير البلاد .. وانعمي بالمجد وامضي للرشاد.. بالاتحاد والنظام والعمل.
وقبل أن تبدو تباشير الصباح كنت قد انتهيت من "الكوبليه" الذي يبدأ بـ"يا الله يا قدير"، ولحنت هذا الذي ألفت وأحسست بالرضا عن كل ما فعلت ونظرت للساعة في يدي فوجدتها الخامسة والنصف، أي أنني في أقل من ساعتين انتهيت من النشيد- بحجمه الأول - تأليفًا وتلحينًا، وأدرت قرص التليفون وهاتفت أحمد بدرخان، وأسمعته النشيد وأنا أعزفه على البيانو، فقال لي بعد أن انتهيت: "اسمع يا مدحت، أنا عندي فيلم وطني لازم ندخل النشيد ده فيه، وإن ماكنش ينفع له أنا مستعد أعمل له فيلم بحاله عشانه". فقلت له: أنا أرفض لأن النشيد وضع لحفل الافتتاح، ويجب أن يذاع في حفل الافتتاح. قال وهو يتثاءب: طيب نبقي نتناقش في المسألة دي لما نتقابل.
هكذا غنت ليلى مراد بالاتحاد والنظام والعمل
ويضيف مدحت عاصم في روايته لكواليس نشيد التحرير: وفي المساء كان عندي بدرخان، وكان في ضيافتي بعض أصدقائي من الضباط، وبينهم صديقي العتيد قائد الجناح وجيه أباظة. وقد أسمعتهم النشيد فوجدتهم يرددونه معي وانطلقنا ننشد كلنا في حماس وحمية. وما كدت أنتهي حتى قال وجيه أباظة: اسمع يا مدحت، أنا عندي فكرة لمطلع النشيد، لازم البدء يكون مارش علشان تنبه الأذهان وتنشط الحاسة، حاسة الاستماع للكلام اللي جاي. ووجدته قولًا معقولًا، فغيرت مطلع النشيد. وعاد وجيه يقول: ثم إن النشيد قصير، ليه ماتعملشي حاجة عشان السودان وليه ماتزودش تاني؟ وقد كان وعاد وجيه في اليوم التالي ليجد نشيدًا كاملًا، هو نشيد التحرير الذي تسمعونه.
ويلفت مدحت عاصم إلى أنه: إلى هذه اللحظة لم أكن قد قررت من ينشده، ولا وضعت في ذهني مطربة أو مطربًا بالذات. وفي الليلة التالية، كنت أنشد النشيد أمام أصدقائي من الضباط وجاءت على غير ميعاد السيدة "ليلى مراد"، وكانت في سفر ومن عادتها أن تأتي للسلام كلما عادت. وقد استمعت للنشيد وراق لها، وراحت تغنيه معنا، ثم قالت لي: "أنا عاوزة أغني النشيد ده".
ويشدد عاصم مختتمًا: ولو لم تقل هي ذلك، لألححت عليها. وأبدى الأصدقاء استحسانهم للفكرة. وغنت ليلى مراد النشيد في حفل الافتتاح.